You are here

قراءة كتاب المسرح والقضايا المعاصرة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
المسرح والقضايا المعاصرة

المسرح والقضايا المعاصرة

كتاب " المسرح والقضايا المعاصرة " ، تأليف د.

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 7

لقد شكلت مسرحية (البطة البرية) ثورة على التقاليد الاجتماعية الموروثة، حيث جاءت اقرب ما تكون إلى مسرحية الأفكار أو المناقشة، وهي تدور حول أسرة فقيرة تكافح للعيش على طريقتها الخاصة، إذ تبقى السعادة تغمر هذه الأسرة المكونة من الرجل وزوجته وابنته رغم الفقر الذي يعيشون فيه، وتتحول هذه السعادة إلى تعاسة حينما يدخل إلى بيت العائلة (جريجرز) الذي يبلغ رب الأسرة السيد (هيلمر) بأن زوجته (جينا) قد كانت عشيقة والده وأن ابنتهما (هدفيج) ليست ابنته، وكل هذا الموقف من (جريجرز) يكون بدافع المثالية والتمسك بالصدق رغم كل النتائج التي يؤدي إليها الكشف عن الحقيقة، وينتهي الأمر إلى هجر (هيلمر) لأسرته، بينما يقوم (جريجرز) بإقناع (هدفيج) وبطريقته المثالية المتعنتة بضرورة التضحية ببطتها البرية، وبعد أن تتحطم أحلامها تقوم (هدفيج) بقتل نفسها.

إن مسرحية (البطة البرية) تبقى قريبة من سيرة (إبسن) الذاتية، وهي بقالبها الأكثر انفتاحاً، ولهجتها الهجائية القاسية، ونهايتها غير الحاسمة تحتل- كما يرى إبسن - مكاناً خاصاً بين مؤلفاته، وتتضح جدتها في اتجاهاتها الفكرية لأن (إبسن) ينفي فيها شرعية الثورة نفياً باتاً، وهذا ما يمكن وصفه بأنه قد يكون نبذاً لكل ما كتبه (إبسن)(34)، الذي أراد في معظم مسرحياته أن يكون ثورياً حيث حقق في المجال الاجتماعي الأخلاقي انقلاباً جذرياً، وذلك من أجل تحقيق التغيير الذي يحقق السعادة والطمأنينة لأفراد المجتمع.

وانطلاقاً من المبادئ المثالية التي يؤمن بها (جريجرز)، فإنه يترك أباه الثري وكل ما يحققه له من رفاه وسعادة ويتجه للكشف عن الحقيقة للسيد (هيلمر)، وذلك من أجل تثبيت حياته الزوجية على دعائم الصدق والصراحة :

(جريجرز : (في دهشة بالغة) لا أفهم.

هيلمر : ماذا يستعصي على فهمك ؟

جريجرز: إن الوصول إلى تفاهم بهذا... تفاهم سيكون نقطة تحول إلى حياة جديدة. إلى تآلف ينهض على الحق والصراحة ويتجرد من الخداع..

هيلمر : نعم.نعم. أدرك هذا تمام الإدراك)(35).

ومما يزيد كلام (جريجرز) تأكيداً حول الحقيقة التي أبلغها للسيد (هيلمر)، هو أن السيد (فيرليه) والد (جريجرز) يبدو - منذ بداية المسرحية - مهدداً بالعمى، وهذا المصير ينتظر (هيدفيج) أيضا، إذ أن حالة العمى التي أصبحت تعاني منها ليست ناجمة عن مرض ما وإنما انتقلت إليها عن طريق الوراثة.

إن الكشف عن حالات الصراع بين المثالية والزيف، وبين الخداع والنفاق في مسرحية (البطة البرية)، كان من نتيجته أن انتهت أسرة (هيلمر) الفقيرة نهاية مأساوية، (ففي حين يستخدم إبسن في أغلب الأحوال شخصية ما ليتقدم بعقيدة ثورية معينة لعله يعتنقها هو نفسه، إذا به لا يكاد يرضى أبدا بالكلام الأجوف، فهو في الوقت الذي يتقدم فيه بفكرة مجردة، يفحص عواقب هذه الفكرة في ساحة الفعل الإنساني موضحاً كلاً من القوة النظرية لحقائق معينة وآثارها المهلكة على حياة الآخرين إذا وضعت موضع التطبيق)(36)، وهذا ما حدث بالفعل لعائلة السيد (هيلمر) التي تحطمت كل أركانها وعلاقاتها الأسرية الداخلية، لتظهر لنا الشخصيات العامة الضعيفة في وضع مأساوي، إذ أن كلمة صدق واحدة أودت بحياة أفرادها، لأن الصدق لا ينال في المسرحية إلا من الكادحين الضعفاء الذين تستدعي حالتهم منا ان ننظر اليهم بعين العطف والشفقة.

إن التضمينات الرمزية التي يجعلها (إبسن) ضمن الأحداث تجعل من شخصياته المسرحية غامضة غريبة الأطوار، مما يجعلنا لا نفهم تصرفاتها وأفعالها بل وأقوالها أيضا، لا سيما أن الرمزية عموماً تعكس المعنيين الخارجي والداخلي إذ يتطلب إدراكهما قدرة عقلية واعية، (إن انتحار هيدفيج عندما يطلب منها أن تضحي بالبطة البرية ليس مبرراً من الوجهة الواقعية والمنطقية ولا يمكن أن يفهم تبعاً لذلك إلا على أساس أن البطة البرية رمز، والرمز هنا يتخذ أبعادا مختلفة، وفي الوقت نفسه يجمع بينها خيط خفي يكسبها نوعاً من التلاحم في رؤية شاملة تنتظم كل المواقف والأحداث)(37)، وهكذا يتجسد الرمز عند (إبسن) كذهنيات تكمن داخل صور، وهي تتمثل فيها القدرة على تزويد مشاعرنا الواعية بمضمونها الفكري، فالبطة البرية رغم أنها بطة فعلية إلا أنها ترمز لعدد من الوقائع والأحداث التي ترتبط بالشخصيات المسرحية، كشخصية (الملازم أكدال) الذي يفقد مكانته الاجتماعية بسبب تهمة يدبرها له صديقه السيد (فيرليه)، ليصبح بذلك مهيض الجناح مثله مثل البطة البرية التي أصابتها رصاصات بندقية (فيرليه) تحت جناحها مما جعلها تهوي إلى القاع، وفي موضع آخر، تصبح البطة البرية رمزاً لشخصية (هيدفيج) التي تبدو في المسرحية مجهولة الهوية مثلها مثل البطة البرية التي لا يعلم أحد من أين أتت، ولا من هو والدها الحقيقي:

(هيدفيج: أما هي فقد انتزعت من بين أصدقائها انتزاعاً. أضف إلى هذا أن حياتها يشوبها الكثير من الغموض فلا أحد يعرف من أين جاءت.

جريجرز: إنها هوت إلى أغوار المحيط)(38).

لقد أحالت المثالية المقلقة التي ادعاها (جريجرز) سعادة البيت الهادئ القانع إلى تعاسة مفرطة، حيث نقلت أسرة السيد (هيلمر) إلى أزمات متلاحقة انتهت بكارثة أزلية تمثلت بموت (هيدفيج)، وهذه المثالية التي جعل (جريجرز) من نفسه داعية لها لا يمكن أن تكون هي الطريقة المثلى لعلاج الأخطاء والمشكلات الاجتماعية.

إن (إبسن) قد قدم في مسرحه بحثاً للقضايا الجدلية التي تؤرق الإنسان في الحياة المعاصرة، وذلك من خلال مناقشته للصراع القائم بين الفرد والنظم الاجتماعية الفاسدة، لذلك فهو لا يتوانى عن الهجوم على مراكز السلطة التقليدية في الكنيسة والدولة بحثا عن حرية الإنسان ودفاعا عن قضايا المرأة، بما يتوافق مع المبادئ الإنسانية والأخلاقية التي يدعو اليها.

Pages