كتاب " القدس ملامح جيل يتشكل " ، تأليف محمد عدنان سالم ، والذي صدر عن دار الفكر للطبا
You are here
قراءة كتاب القدس ملامح جيل يتشكل
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
القراءة على وميض: صواريخ غزة
(3)
لقد فرضت غزة في مواجهتها للعدوان ما بين 27/ 12/ 2008 و17/ 1/ 2009 واقعاً جديداً؛ لن يكون العالم بعده كما كان قبله.
كان الغرب قد استغل غفوةً ألمت بنا، تراخت فيها أيدينا عن الكتاب ليدسَّ بيننا صهاينةً مَلَّ عشرتهم، ثم راح- على مدى ستين عاماً- يروِّج لأكذوبة حق إسرائيل في الوجود، ويربِّت على أكتافنا مردداً- كما يفعل الشيطان بالنائم فيقول له-: عليك ليل طويل فارقد..
لم يكن الغرب الاستعماري يجهل حفاوتنا بالكتاب ، ولا اعتلاءنا صهوة الحضارة، عندما راح المأمون على حداء نداء {اقْرَأْ} يشتار الكتب لبيت الحكمة من كل فجٍّ عميق، ويستخرج كتب الفلسفة الإغريقية من المخازن التي أحكمت الكنيسة أقفالها خوفاً على رعاياها من الضلال؛ يتقبلها غرامةً عينية بعد غزوه لقبرص، وكان فريقه برئاسة حنين بن إسحاق بانتظارها، يتلقفها بالترجمة ليضعها بين أيدي العلماء؛ يكبون عليها دراسة وتحليلاً وصهراً في بوتقتهم، ثم ليعيدوا إنتاجها خلقاً جديداً مطبوعاً بطابعهم، مذخوراً بقيمهم.
وعندما كانت شمس حضارتنا تسطع نوراً وعلماً في قرطبة وغرناطة؛ كان الجهل والظلام يلف الغرب من أركانه الأربعة، كما تشهد بذلك رسالة جورج الخامس ملك بريطانية إلى هشام بن الحكم:
من جورج الثَّاني ملك إنكلترة والغال والسُّويد والنروج، إلى خليفة المسلمين في الأندلس، صاحب العظمة هشام الثَّالث الجليل المقام.
بعد التَّعظيم والتوقير فقد سمعنا عن الرُّقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصَّافي معاهد العلم والصِّناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج هذه الفضائل، لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم، ولنشر أنوار العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل من أربعة أركانها، وقد وضعنا ابنة شقيقنا الأميرة ديوبانت على رأس بعثة من بنات أَشراف الإنكليز، لتتشرف بلثم أهداب العرش، والتماس العطف لتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم، وفي حماية الحاشية الكريمة والحدب من قبل اللواتي سيقمن على تعليمهن، وقد أرفقت الأميرة الصغيرة بهديَّة متواضعة لمقامكم الجليل، أرجو التَّكرُّم بقبولها، مع التَّعظيم والحبِّ الخالص من خادمكم المطيع (4) . جورج م.أ .
ثم كان من أمرنا أن غلبنا النعاس، وأدركتنا سِنة من النوم- طال أمدها- هجرنا فيها الكتابَ ، وعزفنا عن القراءة عزوفاً أمعنا فيه إلى درجة الخزي والفضيحة، حتى بتنا مضرب المثل، وحجزنا لأنفسنا أول درجة من أسفل سلَّم إنتاج الكتاب وقراءته في العالم. وتكفل (تقرير التنمية البشرية لعام 2003) بتوثيق ذلك استناداً إلى إحصائية اليونيسكو التي سجلت للعالم العربي كلِّه إنتاج 6500 عنوان في عام 1991 مقابل 42000 عنوان في أمريكة اللاتينية، و102000 عنوان في أمريكة الشمالية.
وراح التقرير بعد ذلك يتفنن في أساليب عرض هذه الفضيحة، فيسجل للإسرائيلي الواحد قراءته 40 كتاباً في العام، و35 للأوربي، مقابل كتاب واحد يقرؤه واحد من كل ثمانين عربياً. ويستخلص من ذلك أن ما يقرؤه الإسرائيلي الواحد يحتاج إلى 3200 عربي ليقرؤوه؛ وذلك هو حاصل ضرب 40×80= 3200، وأن ثقافة الإسرائيلي الواحد = ثقافة 3200 عربي.
وبعيداً عن إحصاءات اليونيسكو، فإن بؤس الثقافة العربية، والعزوف العربي عن القراءة يبدو جلياً من عدد النسخ التي يطبعها الناشر من كل عنوان، والتي هبطت إلى أقل من خمس مئة نسخة؛ مما يعني أن الناشر يطبع من كل عنوان ينشره نسخة واحدة لكل مليون عربي.
لقد فتحت غزة أعيننا على مكمن الداء، الذي أدركه عدوُّنا وكنا عنه غافلين، فعندما لامَ موشيه دايان قوْمُه على نشره مخططات إسرائيل لشن عدوانها علينا؛ طمأنهم إلى أننا لا نقرأ السطور؛ فضلاً عن قراءة ما بينها وما وراءها.
وبالداء ذاته خضنا حربي الخليج الأولى والثانية؛ دون أن نفطِن إلى أننا خضناهما لمصلحة أمريكة؛ تمهيداً لاحتلالها أرضنا في العراق، طبقاً لمخططاتها التي نشرتها قبل عشرين عاماً؛ كتباً ومقابلات صحفية، مررنا بها مرور المغفلين كأنها أضغاث أحلام لا تعنينا، ولسنا موضوعها.
الكتاب الذي هجرناه- غفلةً عنه واستهانةً به - هو الدواء.. والعودة إليه والإمساك به والنهم لقراءته؛ مفتاح كل نهوض وتحضر وانتصار.
فالكتاب هو المعيار الذي يوزن به الإنسان فرداً كان أم مجتمعاً، فيكون وزنه بمقدار ما يقرأ، وتكون قراءته دليلاً على إنسانيته؛ يقال للإنسان: اقرأ وارتق فإن منـزلتك عند آخر كتاب تقرؤه، وكلما ابتعد الإنسان عن الكتاب فقد شطراً من إنسانيته؛ حتى إذا سقط الكتاب كلياً من يده خسر رتبته الإنسانية، ودخل في عالم انعدام الوزن، ليعود فيه إلى الجانب الحيواني المسخر للإنسان؛ فإنما الإنسان حيوان قارئ. وحده الإنسان من بين الكائنات الحية يكتب معلوماته ويختزنها، ويضيف إليها ويراكمها، ثم يعيد قراءتها لينمو بها ويتطور.. هل رأيت كبشاً أقرن يقرأ أو قطّاً يكتب؟!
للنحلة هندسة رائعة تبني وفقها خلاياها، ونظام معقد تنتج بموجبه عسلها، لكن نظامها لا يتطور، هو ذاته كما كان قبل عشرة آلاف عام، وسيكون ذاته بعد عشرة آلاف عام. وعسلها لا تنتفع به، إنما تقدمه هدية للإنسان مثلها مثل البقرة الحلوب.. كلاهما لا يقرأ.. وحده الإنسان يقرأ.. وبالقراءة يكون إنساناً.. ومن دونها يصبح غثاءً كغثاء السيل؛ لا وزن له، ولا قيمة، ولا حوْل ولا طوْل.