كتاب " بلا بوش " ، تأليف عبد الرحمن الهويش ، والذي صدر عن مؤسسة شمس للنشر
You are here
قراءة كتاب بلا بوش
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الأب ( شلش المرهون )( 2 )
بدأتْ السيارة بالحركة، صياح الجند يتعالى، لكنة كلامهم مستعجلة؛ حاولتُ ملاحقتها، إلا أن محاولتي فشلت في فهم ما يقولون، هكذا هم الأمريكان: السرعة ديدنهم، يتكلمون بسرعة ويبتلعون قسمًا من حروف الإنكليز.. يأكلون بسرعة.. يسافرون بسرعة.. ويفكرون بسرعة، إلا أنهم؛ وبالضد من مصلحتنا؛ ينفِّذون أفكارهم ببطء شديد. هذه هي سنتهم الرابعة في بلادنا، ولا زالت أفكارهم قيد التنفيذ... يقولون إنهم يخططون لجعل بلدنا نموذجًا يُحتذى به في المنطقة... أي أنموذج هذا الذي زهقت من أجله مئات الألوف من الأرواح... واستلزم إيجاده كل هذه الآلة العسكرية المدمرة.. يريدون أن يصنعوا منا (سوبر دولة)، فهم مولعون بهذه الكلمة التي ترتكز للخيال أكثر منها للحقيقة.
جاءونا محررين، هم يقولون... وهل تحتاج الحرية إلى كل هذا القتل والتدمير...والقيود، آآآه من القيود التي تقتل الحرية... ترى هل يعون الحرية التي نبتغيها، وهل حريتنا تشبه حريتهم... وهل عرفنا نحن معنى الحرية؟... ( لعنة الله عليكم وعلى حريتكم ).
"أفكار" يا ابنتي العزيزة: اليوم فاصل بين الأمس والغد.. لن يكون هناك تشابه على الإطلاق.. كل ما قبل اليوم يختلف عن ما بعده.. إنها عتبة جديدة، وهل الحياة سوى عتبات نمر بها الواحدة بعد الأخرى، حتى نصل العتبة الأخيرة.. إنه يومٌ أشبه بالموت، وعلينا أن نتقبله.. ما دمنا نتقبل الموت، فاصبري... إن عزائي في ما نحن فيه أن جدتك وأعمامك أحياء ليتكفلوا بكِ...ريثما أدفع ثمن معركة أجل.
تمر الحياة عجلى بينما نبذر ساعاتها في ما لا معنى له، وحين نشعر أن فراقها قد حان، نسترجع تلك الساعات لنجد أنها كانت قصيرة جدًا قياسًا بأفراحها ومسراتها، وحريتنا في فعل ما كنا ننوي فعلاً أن نقوم به خلالها.
لقد توفرت لي الحرية مراتٍ ومراتٍ، لكني لم أجرؤ على فعل ما كان عليَّ أن أفعله... ألهذا نخاف الحرية؟.. ألأنها تجبرنا على فعل ما يتوجب علينا فعله، أم لأنها تكشف لنا أن أحلامنا هي ليست سوى أحلام غير قابلة للتطبيق، ولا يمكنها أبدًا أن تكون واقعًا؟.
كانت تتمايل راكضة من جهة إلى أخرى، تراءت لي حينها فرسًا مذعورة تهرب من أيدٍ تنوي أن تربطها، عينان كبيرتان مفتوحتان على وسعهما، متحفزتان، لا تثبتان على صورة، وشعرها القافز حتى ردفيها يتشظى بسواده المتفحم، صفقت لها كثيرًا، ورقصت معها، رميتُ فوق رأسها كل ما تحمله جيوبي، طوقتها بيدي، وهي تدور وتدور كأنها كتلة طين على عتلة دوارة، وأنا نحات أضغط بيدي على تضاريسها ليتشكل منها تمثالا بالوجه الذي أريد.
جاءتني بعد أن أنهت رقصتها، جلست قربي ثم قالت :
ـ يبدوا أنك جديد...
ـ نعم جديد، من المعسكر الجديد الذي يفصلكم عن الحدود... أجبتُ مؤشرًا بيدي صوب المعسكر الذي انتقلتْ إليه وحدتي قبل أيام، ويبعد مسافة ساعة، أو أكثر بقليل عن قريتها.
ـ رميتَ كل نقودك... ماذا تريد؟.
ـ أريدكٍ راضية.. وأن أكون قريبًا منكِ... أشعر بالحرية وأنا قُربك.
ـ الحرية، هاهاهاهاي.. لكن ثمن الحرية غالٍ، وقد يتعبك قربي منك، وقد لا تستطيع مجاراتي.. فمطالبي كبيرة وحاجاتي متعددة... و..
ـ سيكون تعبك راحتي، ومجاراتك منافسة حياتي.. وستكون مطالبك مطالبي وحاجاتك ضرورات لابد من إكمالها.
ـ ستتعب.. كثر مثلك قالوا، وحاولوا.. لكنهم في النهاية كسلوا وهانوا ثم ارتضوا بغيري وركنوا إليهن... النساء كُثر هنا؛ يمكنك أن تجد غير التي ترفضك، وأن تستبدل من يعلو طلبها.
ـ لكنني أردتكِ أنتِ... أنت لا غيرك.
كان كلامها ينم عن تعلم وعن ثقافة، قلتُ لها :
- تبدين وكأنك على مستوى من التعليم... والثقافة.
ردَّت ضاحكة :
- أنا متعلمة، ومثقفة.. وصلتُ بدراستي نهاية الثانوية.. لم يسبق لبنت من الغجر أن وصلته... كنتُ أريد أن أكون مختلفة، وأن أعيش جوًا آخر غير هذا الجو الذي أعيشه.. لكنني اكتشفتُ أن هذا الجو أصدق من غيره؛ وأوضح... وبدأت ثقافتي تتكدس.. كل من التقيت به كان له مستوى من الثقافة.. لقد التقيتُ بأعمدة قوم، ورؤساء، ووزراء، وأدباء، وضباط كبار، وأساتذة جامعات، وجُهَّال... وتعلمتُ منهم كلهم؛ حتى الجُهَّال؛ وتعلمت أن أكلِّم كل واحد منهم حسب مستواه.