كتاب " بلا بوش " ، تأليف عبد الرحمن الهويش ، والذي صدر عن مؤسسة شمس للنشر
You are here
قراءة كتاب بلا بوش
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
شلش( 4 )
الطريق إلى البيت يمر بسرعة، تمنيتُ أن لا أصل، أن أبقى أدور وأدور، تساؤلات كثيرة جالت ذهني: كيف لي أن أقابلهم؟.. ترى هل وصلهم الخبر؟.. وهل علموا أنني كنتُ ضمن المشاهير؛ مشاهير الحرية الجديدة والعالم المتحضر؟.. كيف ستقع عيني في عيونهم؟.. وكيف ستكون ردة فعلهم مني؟.. ومن سيكون حاضرًا معهم، ليشهد انكساري واعترافي بالفجيعة؟.. لا شك أن يكون ذلك القسم منهم الذي كنت أستشعر في نظراته معاني الاستصغار وعدم الاحترام قبل اعتقالي سيكون حاضرًا بينهم اليوم.. ترى كيف ستكون نظرتهم اليوم إن كانوا قد عرفوا الذي جرى؟.
نعتقد أن أعزَّ ما نفقده في حياتنا هو الروح، وانها آخر ما يغادرنا... وإذا متنا وزهقت أرواحنا لم يتبق شيئًا نحتفظ به أو نبقيه بعدنا... وما درينا أن الإنسان يبقي وراءه أشياءً، ويأخذ أشياءً أخرى بعد أن يفقد روحه ويموت، فهي تبقى ملازمة له وملتصقة به، أشياء قد تكون أهم من الروح، ولذا فهو يحتفظ بها، ولا يعطيها، حتى إن شعر أن الروح ستكون ثمنًا لها، فالكل مستعد - مع استثناءات قليلة لا تجدر بالحسبان - أن يدفع روحه مقابل أن يستبقي على كرامته، وأن يستبقي ذكر عمله الجميل، وليحظى باحترامه، والكل يناضل جاهدًا كي يصون شرفه.
لكنهم أخذوها كلها، وتركوا أرواحنا.. أخذوا كرامتنا، واحترامنا لأنفسنا، وشرفنا.. لم يبقوا لنا شيئًا لنأخذه معنا، أو نبقيه وراءنا، أخذوها، ويا ليتهم أخذوا ارواحنا معها، أو قبلها.
قريبًا من بيت أهلي، حشود أناس، يبدو أنهم علموا بمقدمي، وها قد حانت لحظة الشعور بالذل والمهانة، التي من المؤكد أنها ستتكرر وتتكرر... آه، فقط لو كان بيدي خيار آخر، لولا أنك يا (أفكار) هنا؛ ما كنتُ أتيت، ولولا خوفي عليكِ من ذئابهم؛ لأخترتُ طريقًا آخر، ولو أنني فقط اطمأننتُ لحالكِ بعدي؛ لسعيتُ لآخذ بثأري، وأردّ كرامتي... لكنني مكبلٌ بكِ، ومخنوقٌ برباطك، وسأتحمل كل شيء لأجلكِ.
ومع اقترابي من كل الإجابات عن أسئلتي؛ كان دويُّ قرع الطبول يصل سمعي، وصوت موسيقى، وأناس تغنِّي... ورويدًا رويدا صارت أصواتهم واضحة :
- ( جانه البطل جانة...وبفرحة خلانه...
بالذل ابد ما قبل... وقفته وقفة جبل...
ردَنه هيبتنه... وأعدانه خافتنه.......).
انتابتني رغبة كبيرة للضحك، مع كل ما تحتمله نفسي من ألم ومعاناة، الضحك من هذا المجتمع ومن معكوساته، من زيفه وخداعه ومن قشوره التي يبدلها كيف يشاء... آه لو تعلمون بما قدمتُ، وبما اُنتزع رغمًا عني.
استقبلني أخي ( سليمان ) بأحضانه ما أن وطأتْ قدماي الأرض.. قال وسط هرجٍ عالٍ :
- الحمد لله على سلامتك.. لقد شرفتنا ورفعت رؤوسنا.. ما قدَّمته كان مفخرةً لنا... كلنا نتكلم عن بطولاتك.
هذه المرة ضحكتُ؛ ضحكتُ على ما قدَّمته، على بطولاتي، وعلى ما رفعتُ به رؤوسهم.. وضحكتُ لأنني صرتُ مفخرةً لهم... أي نفاق وأي دجل هذا الذي نصطبغ به وكلنا يعرف الحقيقة، وإن كان بعضنا لا يعرفها كاملة.
سكت سليمان للحظات، ثم قرَّب رأسه مني وتكلم في أذني بنبرة شعرت بجديتها وحسمها، قال :
- لكن ينتظرك أمرٌ آخر تقوم به لتبقى رؤوسنا مرفوعة.