You are here

قراءة كتاب الحكم العطائية شرح وتحليل - المجلد الثالث

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الحكم العطائية شرح وتحليل - المجلد الثالث

الحكم العطائية شرح وتحليل - المجلد الثالث

كتاب " الحكم العطائية شرح وتحليل - المجلد الثالث " ، تأليف محمد سعيد رمضان البوطي ، والذي صدر عن

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 4

الحكمة الثانية عشرة بعد المئة

«إنما يستوحش العباد والزهاد من كل

شيء، لغيبتهم عن الله في كل شيء. فلو

شهدوه في كل شيء لم يستوحشوا من شيء»

في العُبّاد والزُهّاد، من يحسبون أن الانقطاع لكل من العبادة والزَّهادة يستدعي العزلة عن الدنيا والابتعاد عن الناس، لتصفو قلوبهم عن الشواغل، ولكي يكون ابتعادهم عن الدنيا عوناً لهم على الزهد فيها والإعراض عنها، فيبحثون لعباداتهم عن أماكن معزولة عن الناس مفصولة عن زخارف الدنيا وشواغلها، ويمارسون زهدهم من خلال الابتعاد عن النعيم وأسبابه، والتجرد عن الزينة، والحذر من التبسط في المأكل والمشرب والمباحات.

فهل هذه هي الرتبة العالية المثلى التي ينبغي أن يشدّ العبد نفسه إليها، لينال رتبة الأبرار والصديقين؟

يؤكد ابن عطاء الله من خلال هذه الحكمة أن التفرغ للعبادة والإعراض عن زخارف الدنيا وملهياتها، لا يكون السبيل إليها بالعزلة في الكهوف ونحوها، وبهجران مقومات الحياة الدنيا، كزراعة الأرض وبناء البيوت، وإنشاء المعامل وإقامة المشروعات التجارية، والسعي وراء اكتشاف الحقائق العلمية.

ولو صح أن يكون سبيل العبادة والزهد في الدنيا، الاستيحاش من كل شيء تراه العين من مظاهر هذه الحياة الدنيا، ومن ثم الفرار منه والابتعاد عنه، إذن لعادت الأرض خراباً، ليس فيها عرق أخضر، ولا بناء لساكن، ولا رزق يُعدّ لطاعم، ولتحولت أرض المسلمين إلى مرتع للكافرين من أعداء الله وعباده المؤمنين به، دون أن يكون في المسلمين جند يذودون عنها ولا حاكم يرعى شؤونها ومصالحها.

وكل ذلك يتناقض مناقضة حادة مع قول عز وجل: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 11/61] أي أمركم بعمارتها، ومع قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } [الملك: 67/15] ومع قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 7/32] .

ولكن كيف السبيل إلى أن يقبل المسلم فيلبي نداء الله الآمر له بعمارة الأرض والتقلب في نعيمها والاستفادة من خيراتها والتعامل مع كنوزها ومدّخراتها، دون أن تشغله عن الإقبال إلى الله وعن أداء الرسالة التي خلق من أجلها والتي دلّ عليها قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } [الذاريات: 51/56-57] بل كيف السبيل إلى أن يقبل المسلم إلى الدنيا وخيراتها وكنوزها هذا الإقبال، ثم لا يحجب بها عن الله وعن الدار الآخرة؟

يجيب ابن عطاء الله، من خلال حكمته هذه عن هذا السؤال.

يقول ابن عطاء الله: إنما يأسرك من الدنيا تعلقك بها، لا تعاملك معها. والمطلوب منك أن تتعامل معها لا أن تتعلق بها.

والسبيل إلى ذلك أن تأخذ نفسك بالأسباب التي توقظ بين جوانحك محبتك لله، والتي تزيدها قوة وتأثيراً على قلبك. وأهم هذه الأسباب الإكثار من ذكر الله ومراقبته، وقد مرّ بك الحديث عن أهمية ذكر الله تعالى وآدابه وآثاره، في أكثر من مناسبة، فلا داعي إلى التكرار.

غير أني أذكرك بما قلته لك من أن أفضل وأيسر طريقة لذكر الله تعالى أن تربط النعم التي تفد إليك بالمنعم جل جلاله، بألاّ تتلقاها غافلاً عن مصدرها الذي وصلت إليك منه. ونظراً إلى أن نعم الله تعالى سلسلة متصلة الحلقات لا تكاد تنقطع عنك، إذن لا بدّ أن تكون دائماً مع الله في استقبالك لنعمه، بفكرك ووجدانك، وهذا هو أعلى مراتب مراقبة الله وذكره.

فإذا أخذت نفسك بهذا الورد، بل بهذا الغذاء الروحي المتميز، واستقمت على ذلك دون انقطاع، تراقب المنعم المتفضل، كلما تقلبت في نعمةٍ من نعمه، فإن قلبك يصبح وعاء يفيض بحبه وحده، وتفيض بل تزول منه محبة الأغيار.

واعلم أن محبة الله موجودة بالفطرة في أفئدة عباده جميعاً، ولكنها قد تكون راقدة، من جراء ما قد غشّى عليها من محبة الشهوات والأهواء. ولكن الدوام على ذكر الله تعالى، لاسيما بالطريقة التي حدثتك عنها، يوقظ هذه المحبة الربانية من رقدتها، ثم إنها تزداد قوة وتكاملاً مع الاستمرار على مراقبة الله وذكره، إلى ألاّ يبقى في القلب شريك مع الله في حبه.

وربما استشكلت هذا الذي أبينه لك، قائلاً: ولكن ألا تبقى في القلب مع محبة الله تعالى محبة الأب لأولاده، والزوج لزوجه، والمسلم لإخوانه.. إلخ؟

والجواب أن الذي فاض قلبه حباً لله تعالى، لا يتأتى منه أن يحب مع الله أحداً، فإن أحب ابنه أو أباه أو إخوانه، أو الرسل أو الصالحين من عباد الله، فإنما هو حبٌ في الله تعالى، وليس حباً مع الله. وبينهما فرق كبير.

Pages