كتاب " العلمانية والحداثة والعولمة " ، تأليف د.
You are here
قراءة كتاب العلمانية والحداثة والعولمة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
وقد شكّل هذا التنوع إحدى الصعوبات التي واجهتني في أثناء عمليات التصنيف والحذف والإضافة، فهناك ما كنت أراه تكراراً لبعض الأفكار ضمن الإجابات عن أسئلة تحت عناوين مختلفة، وكنت أميل إلى حذفها من بعض المواضع والحفاظ عليها في أكثر العناوين ارتباطاً بها، لكن ذلك أثّر بطبيعة الحال على مضمون الفكرة، وناقشت ذلك مع الدكتور المسيري فرفض الحذف ووضح ما كان معروفاً من أن وحدة الرؤية النابعة من مرجعية نهائية لا تعني هنا تكراراً وإنما هي وضع الحدث في سياقه العام المفسر. فالرؤية التي تحكم المسيري رؤية شاملة يتم إسقاطها على العناوين المختلفة مما يدعم تأكيدها ويساعد على تفسير الحدث ليس في ذاته فقط بل وفي ارتباطه بالأحداث والقضايا بمجموعها. وهذه إحدى سمات فكر المسيري الذي يتعامل مع قطاعات المعرفة المختلفة برؤية ومرجعية حاكمة قادته للتفسير والحكم على ما يتعرض له من قضايا فلسفية معرفية فكرية.
هذا على مستوى الرؤية، أما على مستوى الأحداث والأمثلة فقد تكرر الأمر نفسه، حيث يمكن للمثال أن يكون معبراً وشارحاً لعدد من القضايا، وهو ما دفعنا إلى استخدام حدث ما أو مثال شارح في أكثر من موضوع متعلق، مع مراعاة أن زاوية النظر تختلف من موضع إلى آخر.
وهناك مشكلة أخرى واجهتُها في أثناء التحرير؛ إذ تشتمل هذه السلسلة على عديد من الموضوعات؛ بعضها جاء ليعالج قضايا عامة، ومن ثم لم تكن هناك مشكلة في التعبيرات والكلمات المستخدمة فيها، وبعضها كان متخصصاً وهنا تجلت قضية المصطلحات والمفاهيم والأفكار التي تدخل في إطار التخصص والتي قد تربك غير المتخصصين. وكان أمامنا إما تجنب كل المصطلحات ذات الصبغة التخصصية أو التعبير عنها بلغة عامة تتناسب وعوام الجمهور. واخترنا طريقاً ثالثاً وهو الحفاظ على التعبيرات والآراء والمصطلحات المتخصصة على أن تأتي ضمن سياق لغة بسيطة وأفكار ورؤى واضحة، لأن حذف كل المصطلحات قد يدفع بالموضوع إلى العمومية أو التهميش. وقد ساعدنا على استخدام هذا النهج أسلوب المسيري في الكتابة والتخاطب بوجه عام والذي يتميز بسهولة وبساطة لا يخلان على الإطلاق بعمق ما يطرح، بل على العكس تماماً فهما يؤكدانه ويكرسانه.
وها هي ذي السلسلة اكتملت بعد أن كانت فكرة أتت في أثناء زيارة لي للدكتور المسيري، وكنت أناقشه في كيف يمكن للإعلام أن يضيف جديداً ليس على مستوى الحضور العام للضيف فقط وإنما على مستوى الفكر أيضاً، وكيف أن بعض اللقاءات التي أُجريت معه كانت ذات قيمة عالية وبعضها الآخر -وإن كان رصيناً - جاء مفتقراً إلى العمق، وأن بعض المحاورين نجح في أن يخرج من الدكتور عبد الوهاب المسيري ما يمثل إضافة حقيقية بعيداً عما سبق نشره من أعمال متوافرة في المكتبات العامة أو على الشبكة الإلكترونية، ومثل هذه اللقاءات جديرة بإلقاء الضوء عليها. ووافقني الدكتور المسيري في ذلك -وإن اختلف معي في تقييم المفيد من غيره فيما أجراه من لقاءات إعلامية- حيث كان من أشد المهتمين بالإعلام والمحدثين بقيمته وأثره. وهنا سألته: لماذا لا تعطيني كل الحوارات التي أُجريت معك أجمعها وأصنفها وأضعها في كتاب لنَرى الجمهور وحكمه إلى أي منا سيميل؟ فرحب بالفكرة ثم طوّرها لتكون تلخيصاً للمسيرة الفكرية والمعيشية عن طريق السؤال والجواب... وبدأت الرحلة.
وافاني الدكتور المسيري بما يحتفظ به من لقاءات وحوارات وما كتب عنه وعن أعماله منذ ستينيات القرن الماضي حتى تاريخ لقائنا. والمدهش، وإن كان متوقعاً، أن الأسئلة عن أهم القضايا التي طُرحت للنقاش كانت تتكرر على مدار أربعة عقود. وإن شئنا الدقة قلنا إن الأسئلة والإشكاليات موضع الجدل، والسجالات الفكرية والسياسية الدائرة في العالم العربي والإسلامي منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى أوائل القرن الحادي والعشرين؛ هي ذاتها، حيث لم يتم حسم الموقف من هذه القضايا بعد. وجدير بالملاحظة أيضاً أن المحاولات الجادة للدكتور عبد الوهاب المسيري في تفكيك الظواهر وتفسيرها لم تتوقف على مدار العقود الأربعة ولم تتحول إلا بقدر تبلور رؤيته، مما أدى إلى تعميق نظرته ووضع الأحداث داخل سياق واضح المعالم سهّل قراءتها وتفسيرها. ولم يقف المسيري عند هذا الحد الذي يشترك فيه كثيرون وإنما حاول بناء نماذج يمكن من خلالها توليد بديل أو بدائل يمكن اتباعها للخروج من التيه وإنجاز التحقق الإنساني.
والملاحظ أن رؤى المسيري تحفظ للإنسان توازنه الذي قد يفقده تحت وطأة الأحداث والتطورات المتسارعة التي يشهدها الواقع المحيط عن طريق إخضاعها لقراءة تفسيرية. فالتفسير لدى المسيري هو أهم مراحل الفهم، ولهذا اتبع منهجاً تفسيريّاً مبنيّاً على التحليل والنقد الذي يجعل الفرد كائناً أمام الآخر وليس مجهولاً أو مهملاً.
ومن هنا كان تأكيده الدائم على قيمة الهوية ودورها، ليس في حماية الأمة فقط بل وفي تقدمها. وشكّلت الهوية أهم عناصر النموذج الذي حاول المسيري صكه للبناء وللإعمار، وهو نموذج مستلهم من البيئة العربية والإسلامية غير مهزوم أمام الآخر. وفي هذا السياق أتت الانتفاضة لتستحوذ على إعجابه الشديد لا باعتبارها مجرد مشروع للمقاومة والتحرير - وهي قيمة في حد ذاتها ومدعاة للفخر - بل باعتبارها أيضاً نموذجاً خلاقاً يقف بقوة أمام النموذج الاستهلاكي الغربي الدارويني. فقد قدّم الفلسطينيون من خلال الانتفاضة مثالاً مميزاً للقدرة على التكيف مع الواقع، والاستفادة من مقومات الطبيعة الفلسطينية، والعودة للمخزون الحضاري في لاوعي الإنسان العربي، ثم إبداعها في إحياء التراث واستحضار حكمة الأجداد. ومن ثم شكّلت الانتفاضة عودة للمعجم الحضاري الإسلامي واستخدامه على النحو الأمثل مع مواكبتها للعصر وتطورها مع الحدث الآني، فقدمت بهذا نموذجاً للحياة والتنمية أسماه المسيري "نموذج التكامل غير العضوي". وما كان ليتأتى للمنتفضين القيام بذلك لولا إحساسهم بقيمة ذواتهم وتحققهم أمام عدوهم، حيث عرفوا نقاط ضعفه وما أصبح عليه، واختبروا إمكاناته الحقيقية على أرض الواقع ولم يستسلموا للصور والأفكار السائدة، وإن لم يدرك كثيرون منهم ذلك بعقله الواعي، فانتصار الانتفاضة نابع من تحقق الهوية الفلسطينية.
ومن هنا كان دفاع المسيري عن الهوية - لكونها السلاح وبداية الطريق - ليس من باب الكلام المرسل أو الشعارات التي يرددها بصدق كثير من مثقفي الأمة، وإنما عن دراية بسبل تأكيد الهوية. فقد رأى المسيري أن أولى خطوات النهضة هي إعادة الثقة فيما نملك، فلدينا قيمة مطلقة من استخلافنا في الأرض إلى جانب قيم واقعية متمثلة في الموروث الحضاري والقيمي. وثانية الخطوات هي إعادة تعريف الآخر وفقاً لما يطرحه والنتائج التي يحصدها من هذا الطرح، وعدم الاكتفاء بتعريفه وفقاً لما يفرضه هو من تحيزات، ثم الوقوف والتحرك في الحاضر صوب مستقبل تسوده قيم الإنسانية المشتركة وليس الفردوس الأرضي المزعوم.