كتاب " العلمانية والحداثة والعولمة " ، تأليف د.
You are here
قراءة كتاب العلمانية والحداثة والعولمة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ولم يكن المسيري لينجز كل ما أنجزه على صعيد الفكر والمعرفة لولا إدراكه لقيمة الإنسان ومقدرته على الحركة والاختيار الحر. فقد كانت المسيرة دائماً مسكونة بالأحداث والتفاصيل، وبعض هذه الأحداث فقط يمثل المحطات الرئيسية في الحياة ويحدد اتجاه الإنسان، وبعض من هذه المحطات يحدد توجهاته وتحولاته. وتكتسب التفاصيل أهميتها بقربها أو بعدها من المحطات أو التحولات الفاصلة، والتفاصيل ليست بالقليلة في حياة ابن دمنهور كما أن المحطات هي الأخرى كثيرة، إلا أن حياته لم تشهد كثيراً من التحولات، وما حماه من التقلبات والتحولات الكثيرة أنه امتلك منظومة أخلاقية وقيماً عامة صاحبته عبر مسيرته، كما أنه وضع لرحلته الفكرية هدفاً نهائياً حدده منذ البداية، وهو ما أعانه أيضاً على أن يكتشف الطريق الذي منحه الإجابة عن جل تساؤلاته، فاختاره وسار فيه.
ولم يكن المسيري يستطيع العيش خارج نسق يفسر سلوكه ويحكمه، ويفسر له ما يحدث من حوله، ولذا تولدت لديه أسئلة وجودية شغلته منذ كان يافعاً وبقيت معه وتطورت بتطوره، وطرق عدداً من الأبواب الإيديولوجية بغية الرد عليها إلى أن أدرك وجود الله المتجاوز للسطح المادي، فآمن إيمان الواعي المدرك المحب، ليشكل تحوله من ضيق المادية إلى رحابة الإنسانية، والإيمان التحول الأهم في حياته. وإذا كان البعض يراه أحد التحولات، فإنني أميل إلى القول إنه التحول الوحيد على مستوى المسيرة الفكرية.
أما على مستوى تحوله من الأدب الإنجليزي إلى اليهود واليهودية والصهيونية فلا أراه إلا انتقالاً أو لِنَقُل تغييراً في الأولويات وليس تحولاً بالمعنى الحرفي للكلمة، فالأدب الإنجليزي كان المدخل الرئيسي لإدراك الدكتور عبد الوهاب المسيري لمضامين نهاية التاريخ ووحدة الوجود المادي في الغرب في أثناء إعداده للدكتوراه في شعر وليام ورذورث وولت ويتمان شاعر الديمقراطية الأمريكية كما يدعي الخطاب التحليلي الأدبي الأمريكي، وهذه الرؤية فسّرت له طبيعة الصهيونية ومنطلقاتها. كما أنه لم يهجر الأدب الإنجليزي أو يتهجم عليه؛ بل ظلت علاقته به قوية لكنها ثانوية في إطار اهتماماته.
ومن خلال إدراك المسيري لمعنى الله المتجاوز استطاع أن يضع نماذجه التفسيرية التي تحدد علاقة كل من الخالق والإنسان والطبيعة أحدها بالآخر، ومن ثم أصبح بالإمكان قراءة الأحداث، على تنوع مجالاتها وساحاتها بين فكر ومعرفة وسياسة وأدب وفن وثقافة، من خلال وضعها داخل نماذج فضفاضة لا تنغلق على ذاتها. وأُومن أن النماذج التي وضعها المسيري تعتبر من أهم إنجازاته الفكرية. وإذا كان قد حقق إنجازاً غير مسبوق في دراسته التشريحية لليهود واليهودية والصهيونية فإن نجاعة هذا التشريح جاءت عبر قراءتهم من خلال نماذجه التي يمكن تطبيقها على معظم ما يحدث في العالم. وعليه فمن غير المستغرب أن تدخل أغنية لروبي أو نانسي عجرم ضمن إطار هذه النظرة الفلسفية لأنهما خضعتا للنموذج ولم تقفا عند حدودهما الذاتية كإحدى تجليات الفيديو كليب بل هما من تبديات التحيز للنموذج الغربي وما فيه من مضامين تحاول تطبيع الجنس وإعادة الإنسان إلى ذاته وغرائزه.
وفي هذا الجانب أقر بأن النماذج كانت بحاجة إلى مساحة وتعميق أكثر بكثير مما أتت عليه، ولكن السعي للإيجاز وتقديم الأهم داخل كل عنوان كان هو المعيار الحاكم. وتبقى مؤلفات المسيري وما فيها من شرح وافٍ معيناً لمن يرغب في الاستزادة.
وكانت هذه السلسلة في الأساس تجميعاً للِّقاءات التي أُجريت مع المسيري منذ أواخر الستينيات، فقمت بتصنيفها وتبويبها طبقاً للموضوع، ثم رتّبت الأسئلة تحت كل عنوان فتَكَوّن هيكل لبعض الموضوعات وعظام متناثرة لبعضها الآخر، في حين أخذ قليل منها شكله النهائي. وعرضت الناتج على الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي رأى أنه نواة لعمل جامع، واقترح أن نضيف إليه المحاضرات والندوات إلى جانب اللقاءات التلفازية، وساعدت الأسئلة والأجوبة المضافة في ملء بعض الفراغات، لكنها أيضاً طرقت عناوين جديدة تمت إضافتها، فأخذ كل موضوع ملامحه ولكن بقيت المعلومات الواردة تحت كل عنوان كحاملات الجسور تحتاج إلى وصل المسافات وملء المساحات فيما بينها، وتم ذلك من خلال جلسات بيني وبين الدكتور المسيري والدكتورة هدى حجازي وأخرى دعا إليها الدكتور عبد الوهاب المسيري عدداً من تلاميذه الذين ناقشوا عدداً من الموضوعات التي كانت بحاجة إلى استكمال. وجاءت أسئلة واستفسارات الحضور ووجهات نظرهم وإجابات الدكتور المسيري لتكسو العظام لحماً فتجسدت الحورات في شكلها قبل النهائي، وعند هذه المرحلة أصبح الموضوع هو المركز بعد أن كان التركيز في البداية ينصب على النقاط الرئيسية والأسئلة محل اهتمام الإعلام واللقاءات.
ولم يكتف الدكتور المسيري بذلك، بل قام بتوزيع الأبواب والفصول على تلاميذه وأصدقائه كل حسب اهتمامه وتخصصه ليطرحوا ملاحظاتهم ويضيفوا من الأسئلة والنقاط ما يرون أنه قد فاتنا ونحن في زخم الانفعال بالعمل. لتعود مجتمعة للمراجعة وإعادة ترتيب الأسئلة والإضافة والحذف مرة ثانية وثالثة وقبل نهائية ونهائية. ولقد استفدت أيما استفادة من أسلوب المسيري في إنجاز أعماله الفكرية على مستوى الجهد والتدقيق، وأيضاً الرحلة المارثونية لمادة هذه المجموعة بين عدد من المعنيين والمهتمين، التي لم تقتصر على إثراء الأفكار وملء الفراغات بما أضافه كلُّ من وُضعت المادة أو جزء منها بين يديه وحسب، بل كانت رحلة عبّرت عن ذكاء المسيري التاجر بحكم الوراثة، فردود الفعل الآتية من أشخاص مختلفين كانت نموذجاً لما يمكن أن يكون عليه استقبال الجمهور عبر عينة كاشفة من الأصدقاء والأبناء والتلاميذ.
ونتيجة لذلك، كانت هذه السلسلة تجميعاً للحوارات التي أجراها صحفيون وإعلاميون ومتخصصون ومهتمون عبر محاضرات أو ندوات أو لقاءات إعلامية، مضافاً إليها ما قام به أبناء المسيري وتلامذته من استكمال الموضوعات، ولذا فهو ثمرة مجهود جماعي قمت فيه بدور المنسق والمحرر، فالشكر هنا واجب ومستحق لكل من أجرى حواراً أخذناه كاملاً أو وزعناه على عدد من الفصول، والشكر لكل من طرح سؤالاً كان له أثر في لفت النظر إلى تعدد اهتمامات المسيري أو فتح لنا باباً لفكرة جديدة. وفي هذا السياق أشكر الدكتور أحمد عبد الحليم عطية الذي كانت حواراته مع الدكتور المسيري خير معين لنا، والشكر كل الشكر لمن واكب هذا المشروع فكرة وجمعاً حتى نهايته بمجهود بحثي أو نقدي، وكل من منحه من وقته واهتمامه، وأخص بالذكر الأبناء الأدبيين (إن جاز التعبير) للدكتور المسيري: الدكتور محمد هشام، والدكتورة جيهان فاروق، والدكتور ياسر علوي. ولا يفوتني هنا تقديم الشكر للسيدة منى البقلي التي بدأت رحلة جمع الأحاديث الصحفية وتصنيفها وبذلت في ذلك جهداً كبيراً. كما أتوجه بالشكر إلى السيدة أماني عزت التي تولت كتابة المخطوطة على الحاسوب، وكذلك إلى جميع العاملين في مكتب الدكتور عبد الوهاب المسيري على ما قاموا به من متابعة ودور محمود في إتمام العمل؛ فشكراً للأستاذ فضل عمران والأستاذة دينا رمضان.
وشكر خاص إلى الدكتورة هدى حجازي، التي كانت رفيقة الفكرة، وشريكة الجلسات، وصاحبة الفضل الأكبر في إكمال رحلة الحوارات بإشرافها على متابعة النسخة الأخيرة وطباعتها، فلها التحية والتقدير الكبيران لشخصها أولاً ولإصرارها ثانياً على استكمال ما أوصى به الدكتور عبد الوهاب المسيري فكانت خير راع لما ترك.
وغني عن القول أنني من أشد المعجبين بأفكار المسيري ورؤيته التي تتسم بالوضوح وصفاء الرؤية. فقد كان المسيري يمتلك قوة ملاحظة استثنائية تجعله يتوقف أمام ما يمرره كثيرون باعتباره من باب الأمر الواقع أو الشيء الطبيعي ليراه هو تعبيراً عن نسق أو تحيز أو نموذج ما. كما كانت لديه قدرة فائقة على وضع النظرية التي يمكن من خلالها قراءة الحدث العابر أو الموضوع البسيط أو القضية السطحية. وكانت هذه ميزة فكرية كبيرة ولكنها أيضاً مصدر استمتاع بما يكتب، والمصدر الأشمل للاستمتاع بكتاباته وحواراته هو أسلوبه السهل الناطق بخبايا وتلابيب الأفكار والمغلف بخفة ظل لا تفارقه في أكثر القضايا تعقيداً وعمقاً. وهذا الاستمتاع قادر على سرقة اهتمام المتلقي رغماً عنه أحياناً، وهو ما حدث معي طوال تحريري لهذه السلسلة، فتحولت مرات كثيرة إلى قارئة أكثر مني محررة، وكنت أقرأ كثيراً من الأجزاء لنهايتها ثم أعود مرة أخرى لقراءتها بعين المحرر وليس بعقل المتلقي. وأرجو أن يكون الحال نفسه مع كل قارئ وأتمنى أن يكون صدى هذا العمل في حجم ما توقعه الدكتور المسيري له.
وختاماً أدعو الله عز وجل أن يأجر صاحبه على كل ما جاء فيه من قول كان يعبر به عن سعي سعاه نحو الله، أو عن فعل ابتغى من ورائه تحقيق العدل وإعمار الأرض.. والله عنده خير الجزاء.
سوزان حرفي
الدوحة
تشرين الثاني/نوفمبر 2008