You are here

قراءة كتاب لبيك: حج الفقراء

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
لبيك: حج الفقراء

لبيك: حج الفقراء

كتاب " لبيك: حج الفقراء " ، تأليف مالك بن نبي ،  ترجمة: د.

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 9

وكانت تتدلّى خيوط العنكبوت، من خشب السقف الذي لا يمكن التعرّف من خلاله على طبقة كلس الجير الممسوحة لكثرة تراكم غبار الفحم الذي صبغ المكان هناك في الداخل. وفي ركن منه، توجد كومة فحم بجانبها أكياس مملوءة لم تفتح بعد. أما الغربال وميزان الفحم، فقد أكملا تأثيث هذا الجانب من المحلّ.

وفي الجانب الآخر، وُضِع صندوق فوقه الشمعة التي لا تكاد تضيء سريراً حقيراً وهو المتاع الشخصي الوحيد في هذا المتجر والذي يمثل حجرة نومه أيضاً.

وكأنَّ إبراهيم، وهو واقف في وسط الغرفة بقميصه المدبوغ مع يديه بغبار الفحم، يجسد الروح السوداء لهذا المكان المعتم.

غادره الشيخ دون أن ينبس بكلمة واحدة وأغلق الباب ثم ألقى تحته المفتاح.

مكث إبراهيم في مكانه متردداً، تنهّد بقوة وهو يترنَّح مرتين أو ثلاثاً وتمكَّن من التوجه أخيراً نحو الركنِ؛ أي غرفة نومه.

بتَروٍّ، حاول أن يطفئ الشمعة قبل أن يتمدَّد على فراشه لكنّ نفَسَه الممزوج باللُّعاب لم يسعفه. وإذ تقطّع نفَسُهُ، ترك يده تسقط على الشمعة فانطفأت، وفي الوقت نفسه فقد التوازن وسقط على فراشه بالمصادفة.

وبعد دقيقة، علا شخيره الذي ملأ المكان وكان بمثابة صدى لشخير صاحبه المضطجع في الخارج.

كان الليل في آخره عندما تململ إبراهيم في ركنه. لقد انتابه إحساس مبهم، كأنّ أحداً قد أيقظه، فاستيقظ وهو يتألمّ من ذراعه نتيجة الوضعية غير المريحة التي اتَّخذها عند سقوطه حينما أراد إطفاء الشمعة.

لقد خطرت بباله المخدّر، ذكرى تلاشى بها إحساسه بالألم، بيد أنها بقيت ذكرى غامضة.

- قال محدثاً نفسه وهو يمسح عينيه: "لقد كان حلماً". ولكي يطرد الظلمة التي تلفّ هذه الذكرى راح يتحسّس الصندوق باحثاً عن علبة الثقاب لكي يشعل الشمعة. أشعل الشمعة ثم اتّخذ وضعية مريحة على فراشه، كان يحاول أن يمسك بأوّل خيط لحلمه الذي ترك في روحه لذة مبهمة.

لكن حاول سدى الاستنجاد بذاكرته التي أنهكها الخمر. ورغم ذلك توافدت أفكار طفت إثرها حوادث ليلة البارحة.

كان طيشه قد بدأ في دكّانه الصغير حيث تناول عشاءه رفقة جماعة من المخمورين: ممبار وفلفل حار وكلّه مخلّل بكميات هائلة من الشراب الأحمر. إنه الطعام التقليدي لكلّّ المشردين في المرافئ الجزائرية.

كان إبراهيم قد خرج ثملاً، عندما غادر المتجر كي يواصل شرابه في أماكن أخرى بالقرب من المحطة.

فهو يذكّر الآن الحشود الهائلة في ساحة المحطة حين كان يخترق الجموع التي تبدو كأنها تنتظر شيئاً ما. وما لبث أن أحدث صفير القطار الداخل إلى المحطة، حركة جامحة، فانضمَّ إبراهيم إلى تلك الجموع مازجاً مقاصده المشوشة مع محاوراتهم.

عندما خرج المسافرون من المحطة، اشتد صخب الجموع وتعالت أصواتهم بالهتاف للذين تعرّفوا عليهم بأنهم حجّاج مهمهمين لهم:

- أنتم السابقون ونحن اللاحقون.

- إن شاء الله!، إن شاء الله!

وكان إبراهيم قد شاركهم أمنيتهم أيضاً، وقد غمره، دون أن يعي الشعور الذي كان يخالج الحشد، حتّى إنه انتهر رفيقه الذي كان معه عندما جرّه بيده، مثرثراً باستهزاء وهو يحاول أن يأخذه إلى حانة أخرى فجمع كلّ كرامته التي فرضتها عليه حالته الحزينة تلك، ليجيبه قائلاً:

"أتظنُّني كافراً مثلك؟ أنت الذي لا تعرف شيئاً عن دينك، فأنا قد حفظت ستين حزباً في حين أنك لا تحفظ ما يكفي لتأدية صلاتك".

وأصلاً، لم يفهم صاحبه أي شيء من هذه الخطبة، وأصرّ على أن يجره معه إلى الحانة.

ولكن على غيرته على دينه استسلم إبراهيم لتناول كأس أخيرة.

فجأة، وفي هذا المكان، انقطع مشهد الذكريات من ذهنه، وكأن ستاراً حاجباً سقط فغطَّى ذلك المشهد وعاد إلى ذاكرته ذلك الحلم الذي حاول إبراهيم استشعاره:

- وتذكّر فجأة: "أجل، لقد حلمت بالكعبة..".

شيئاً فشيئاً بدأ حلمه يتّضح، لقد رأى نفسه في لباس الإحرام، اللباس الذي يرتديه الحاجّ خلال أدائه لتلك المناسك.

ترك هذا الحلم إبراهيم في حيرة من أمره، كان يريد أن يجد تفسيراً لهذا الحلم فلا يوجد مسلم لا يؤمن بتأويل عملي لرؤاه. بل إنه يوجد علم تفسير الأحلام الذي تجلّت فيه على مرّ العصور فطنة بعض علماء تأويل الأحلام. إن الإلهام موجود عند الصوفية بل هي أساليب لها طرقها وقواعدها. فالمسلم، إذا ما احتاج أن يتبيّن أمراً ما، استخار فيه الله ليلهمه عن طريق رؤيا في الحلم.

لقد كان إبراهيم، على سوء تعرجات حياته، يحافظ على الروح الصوفية التي ورثها عن السُّلالة الصّالحة لأسلافه.

لقد كان مغزى حلمه يشغله:

- ترى ماذا يعني أن أرى نفسي في لباس الإحرام؟

ظلّ فكره يطارد بلذّة ذلك الحلم الذي يعتقد أنّه رآه. وبعينين نصف مغمضتين، كان إبراهيم يرى نفسه برفقة الحجيج، الذين سيبحر مركبهم صباح هذا اليوم قبل منتصف النهار كما سمع ذلك خلال جولته البارحة عندما كان برفقة جماعته.

غير أن شيئاً ما لا يصدق كان قد أضاء في شعوره والذي استسلم بعده لسكون لذيذ.

لكنه بذل جهداً ليكبح قفزة شعوره. وكان يريد أن يطلق العنان لروحه التي كانت تتمسّك بدرب حلمه، كان يرى بين جفنيه وكأنه خارج من مرفأ عنابة والمركب يعجّ بهتافات الحجيج الملبية لدعوة الحجّ وصفارات الإقلاع من تلك الباخرة تصطحبهم مثل نغمات الأرغن L’orgue . وفعلاً جسد إبراهيم، ودون وعي، المشهد مردّداً بأعلى صوته:

لبَّيْك لَبَّيْكَ.

Pages