كتاب " مذاهب الفكر الأساسية في العلوم الإنسانية " ، تأليف بوبكر بوخريسة ، والذي صدر عن منشور
You are here
قراءة كتاب مذاهب الفكر الأساسية في العلوم الإنسانية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
بروز الأخلاق وتعلم المعايير الأخلاقية
في الحقيقة، يتموقع التفسير السوسيولوجي للأخلاق عند دوركايم ضمن مجموعة أكبر من المحاولات النظرية التي تبحث عن توضيح أصل وطبيعة الأخلاق، بإعادة بناء تكوينها وجينيالوجيتها على المستوى الفردي، على مستوى النوع أو على مستوى جهازها المفهمي. هكذا، حاول علماء النفس النمو، مثل ج. بياحيه أو إ. كوهلبيرج (J. Piaget 1896-1980 ou L. Kohlberg 1927-1987) أن يكشفوا عن النمو الأخلاقي للفرد، على أساس تراتبية هرمية من المراكز أو الوضعيات الممكنة التي تسبق فيها مرحلة الخضوع للسلطة، مرحلة استقلالية التبادل والتعاون أو وفق نظرة كوهلبيرج المرحلة “ما بعد - الاتفاقية” التي تعقب مرحلتي الـ“قبل” و”الاتفاقي”. وهنا يشكل تعاقب هذه المراحل في الحقيقة، مبررا إمبيريقيا للتراتبية الهرمية المقترحة، بما أن الحالة اللاحقة يفترض أن تكون أكثر اكتمالا من المرحلة السابقة. وبالنسبة لبياجيه على وجه التحديد، فإن التاريخ الأخلاقي للذات السيكولوجية هو نوع مختصر من التاريخ الأخلاقي للإنسانية الذي تكون فيه أخلاق الاحترام الأحادي الجانب والخضوع للسلطة، قد استبدلت بشكل تدريجي بواسطة أخلاق الاحترام المتبادل والتعاون.
وسيكون من الصعب تكذيب بياجيه، عندما جعل من استقلالية الاختيارات خاصية مميزة للأخلاق، مقارنة بالتعديل البراجماتي البسيط للسلوكيات، اتجاه إكراه خارجي يمكن الحصول عليه [بالنسبة لكثير من المخلوقات الحيوانية] دون أن نكون في حاجة للاستنجاد بتفكيرها الأخلاقي. لكن مع ذلك، تثير هذه التراتبية الهرمية للوضعيات، مسألة التحفيز الأخلاقي التي صاغها بشكل جيد س. فرويد (S. Freud 1856-1939) عندما تساءل عن الدافع الذي يجعل الأخلاق إجبارية، ليس وحسب في حضور السلطة [التي تعاقب على مختلف التجاوزات] لكن في ظل غيابها أيضا. وهنا، فإننا لسنا ملزمين بتأكيد وثوقنا في هذه القصة الفرويدية التي يمكن القول بأنها غريبة جدا عن دور غريزة الموت في تشكيل الأنا العليا والانضباط - الذاتي الأخلاقي عند الإنسان. لكن تبقى مسألة الحافز الأخلاقي مفتوحة ولا يمكن تجنب البحث عن أجوبة لها، كما هو البحث عن “الحياة السعيدة” أو بشكل أدق عن السعادة الأخلاقية، في صيغة احترام الذات الذي هو حافز كافي للاستقلالية الأخلاقية، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، لا بد أن نتساءل إذا كانت التربية الأخلاقية من النوع البياجيوي [تشجيع الحكم الحر للذات] قادرة أكثر من النوع الدوركايمي [إنجاز الواجب أمر مرغوبا فيه] على أن تضمن أخلاقية الاختيارات في غياب نظرية أساسية، إن لم نقل “حساسية” أكثر، تتعلق بالواجبات أو المنافع. فإذا أخذنا في الحسبان، المجموعة الممتدة من المحتويات الملموسة للأخلاق، يمكننا بسهولة أن نفهم الانتقادات التي وجهتها الحركة النسوية لفكرة عالمية الحقوق والعدالة المجردة التي يعتقد السيكولوجي كوهلبيرج أنها تمثل المرحلة الأخلاقية العليا. وبالفعل، مثلما أشارت إلى ذلك ك. جيليغان (Carol Gilligan) يبدو أن المسؤولية، العزلة والحساسية اتجاه حاجات الآخرين [أو ما يطلق عليه “أخلاق الرعاية” (“l’éthique du care”)] التي تتطلب الاعتراف بها، تتمتع ببعض الحجج للتعريف بحالة النضج والنمو الأخلاقي عند الفرد (سواء كان أنثى أم ذكرا (Gilligan, 2002).
يثير هذا النقاش، بشأن المعايير الأخلاقية للنمو الأخلاقي الفردي، نقاشا آخر أكثر اتساعا حول الاعتبارات الأخلاقية للنمو الأخلاقي عند الجنس البشري. إن ما يتبقى هنا، هو النقطة التي تقدم البحوث التطبيعية المعاصرة بشأنها، منظورات أكثر ثراء انطلاقا من العلوم المعرفية والنماذج الداروينية الجديدة. ومع ذلك، لا يشكل التفسير التطوري (Evolutionnaire) للأخلاق مشروعا جديدا، لأننا نعثر على قواعده عند كل من هـ. سبنسر أو ش. داروين (H. Spencer 1820-1903 ou Ch. Darwin 1809-1882). لكن النزعة الداروينية الجديدة، العلوم العصبية وعلم الأخلاق تعمل كلها على تجديد ذلك، إما لأنها تجعل المعايير الأخلاقية أو النزعة الغيرية تتمتع بأسبقية تكيف الجماعة، عبر روابط القرابة أو الخاصية التبادلية [ما يطلق عليه الصحة المتضمنة (Inclusive fitness)] وإما عبر دراسة القواعد العصبية - الكيميائية للتعلق أو التودد والأشكال البدائية لـ“لمعنى الأخلاقي” التي نعثر عليها عند كافة الأنواع الحيوانية. وهو ما يعني كيفية استئناف العلاقة مع الفلسفة الاسكتلندية للقرن 18م. وبشكل أكثر دقة، يطبق بعض المنظرين الأخلاق على تصور مقياسي للمعرفة المستوحاة من الأثر الشومسكي (نسبة إلى عالم الألسنية ن. شومسكي (N. Chomsky) الذي يعتقد أن التطور الطبيعي بإمكانه أن يحفز النظم المتخصصة في معالجة العلاقات مع الغير.


