كتاب " الثقاف في الأزمنة العجاف فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب " ، تأليف محمد شوقي الزين ، والذي صدر عن
قراءة كتاب الثقاف في الأزمنة العجاف فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
مقدمة
تاريخ «كسرة»
ثقافة "التحت" وثقافة "النحت"
إن هذه المحاولة هي تاريخ «كسرة» في الثِقاف وفي العِجاف. الكسرة من الانكسار، أو تلك التراجيديا التي لمسها جيورج زيمل (1858-1918) في كتابه «فلسفة الثقافة» في الأزمنة التي واجهت الانحدار والاندحار معاً، وأكد عليها أوزفلد شبنغلر (1880-1936) في «تدهور الحضارة الغربية» أو أيضاً ألبرت شفيتسر (1875-1965) في «فلسفة الحضارة»، عندما دخلت الحضارة الغربية في السنوات العجاف وأحدث تراجع ثقافتها صوتاً مدوّياً في التاريخ المعاصر حيث كتبت الأنظمة الاستبدادية صفحاتها بأقلام من حديد وبمداد من دمّ، لا نـزال نقرأ برهبة روايتها العنيفة وأصداءها البليغة في الكتب والروايات والملتقيات والأفلام. إن الحركات في اللغة العربية (الكسرة، الضمّة، الفتحة، الشدّة، السكون) لها قيمة إنشائية وتنطوي أيضاً على رمزية ساطعة ترتبط بشكل وثيق بالحياة البشرية التي هي كفاح كوني، صراع وجودي، نضال فردي أو جماعي. ترتبط هذه الحركات بالحرب في مختلف مراحلها، بفتوحاتها أو انهزاماتها، فتكون الكسرة للانكسار والانهزام، الضمّة للانضمام والتعاضد بين الكتائب، الشدّة للشوكة والاعتصام، الفتحة للفتح بالغلبة والانتصار. إن الحركات في اللسان العربـي تمنح للحروف وللكلمات ميادين اندماجها وإدغامها على غرار الكتائب في المعركة. والعلّة في الإشارة إلى الحرب هي أن الثقافة في اللسان العربـي لا تنفكّ عن الحرب (الثِقاف في تسوية الرماح، الثِقافة بالمبارزة بالسيوف، ثقف الخصم بالظفر به، إلخ). لكن سأوسّع دلالة الحرب التي كانت فاعلة في الثقافة العربية، إلى دلالة الصراع التي هي أشمل من حيث القيمة التاريخية والكونية، حيث لا تشتمل على القيم السلبية في الدمار، وإنما على القيم الإيجابية في البناء بالمعنى الجدلي والسجالي، أي بحكم التوتّر الخلاّق والفعّال في الإرادات والثقافات. وأحشر في الصراع كل القيم الاجتماعية في التنافس الاقتصادي أو الرياضي من ألعاب ورهانات. ولا شك أن الرياضة تشكّل القيمة التربوية والأدائية في التعبير عن جوهر الثقافة.
إن الغرض هو الحديث عن السنوات العجاف لثقافة متآكلة لم تعد تؤمن بجذورها وبالروح القاطنة فيها. لماذا أستعمل هنا «الثقاف» الذي لم يكن له في اللغة العريقة سوى دلالة الأداة التي تُسوّى بها الرماح، ولم يعد له اليوم في اللغة الشائعة سوى دلالة السحر والشعوذة بمنع الإنجاب أو الإتيان؟ من مصائب اللسان العربـي أنّه افتقد لكلمة في تاريخه الطويل والعريض وهي «الثقافة»، حيث لم تكن له الأدوات النظرية والمفهومية لأشكلتها ونحتها. ولا تزال الثقافة تحمل هزالها التاريخي والقرون العجاف التي لم تعزّزها وأصبحت مفردة "الثقاف" تعني ربط الرجل أو المرأة بالتقنيات السحرية ليعجزا عن الإنجاب أو الالتقاء الحميمي (على الأقل في الفضاء الإثنولوجي المغاربـي). الثقاف السحري المضاف إليه "التاء المربوطة" أضحى ثقافة! فأية لعنة أصابت "الثقافة" لكي لا تكون لها في الماضي والحاضر مقوّمات وجودها وإنجابها للأفكار والمقولات؟ المفكر المعاصر الوحيد، حسب علمي، الذي استعمل كلمة "الثقاف" بصريح العبارة وبدلالة إيجابية، لكن دون الولوج في حقيقتها والاشتغال عليها، هو محمد عزيز الحبابـي (1922-1993): «إن الثقافة، أية ثقافة، يجب أن تكون دائماً ثقافاً وثيقاً ضدّ الظلم، ضد الشرّ والقُبح، مما يجعل العلم والفن والتقنيات تستهدف الترقية الإنسانية»[1]. وقبله استعملها عبد الحميد الكاتب بهذه العبارة: «فتنافسوا يا معشر الكتّاب في صنوف الآداب، وتفقهوا في الدين، وابدأوا بعلم كتاب الله عز وجل والفرائض ثم العربية، فإنها ثِقاف ألسنتكم»[2]. سأبيّن عبر صفحات هذه المحاولة ما أقصده بالثقاف وأضع له بعض القواعد المبدئية في مفهمته في انتظار تطوير أدوات البحث والتقصّي لتطعيمه وإثرائه. وسأبيّن أيضاً المواطن التي كانت فيها الثقافة عبارة عن حذاقة في الجذور الغربية أوّلاً عبر الاشتقاقات اللغوية في الإغريقية واللاتينية، ثمّ في الأصول العربية الإسلامية. لكن هل يمكن الحديث عن مقولة كانت غائبة؟ هل يمكن الكلام عن الثقافة في أزمنة كانت فيها متوارية باسمها ولكن ظاهرة بآثارها ونتائجها في الصنائع والفنون والعلوم؟