كتاب " الثقاف في الأزمنة العجاف فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب " ، تأليف محمد شوقي الزين ، والذي صدر عن
قراءة كتاب الثقاف في الأزمنة العجاف فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
أبدي حول هذه الفقرة الملاحظات التالية في شكل عوائق ضمنية تلتصق بالذهنية العربية:
1- عائق النـزعة التوحيدية، ويخص الهوس العربـي في جمع الأذواق والدلالات في وحدة قسرية دون تنوّع أو اختلاف. هناك نـزعة "قسرية-قهرية" ضمنية في هذه الذهنية، لها بلا شك مبرّر وتاريخ في النُظم السياسية والدينية والأخلاقية. ننسى في الغالب بأن دلالة الكلمة ليست فقط مسألة "قاموس"، بل هي مسألة سياق وقرينة. وبالتالي لا يمكن أن نجد دلالة واحدة ووحيدة لكلمة "ثقافة" و"حضارة" يتفق عليها الجميع، بما في ذلك في الغرب حيث لا يوجد اتفاق حول مدلول الثقافة بين الفكر الفرنسي والفكر الألماني، وأحياناً داخل هذين الفكرين لا يوجد إجماع، فما بالنا بالفكر العربـي! بيّنتُ باقتضاب وسأفصّل لاحقاً أن الكلمة تخضع أكثر إلى السياقات والرهانات والصراعات منه إلى القواميس والأكاديميات. فالبحث "القسري-القهري" عن دلالة وحدوية أو توحيدية كما ينادي نصر محمد عارف هو إجحاف وجفاف لا طائل من ورائه.
2- عائق التصفية والتنقية الذي يرتبط بالعائق السابق حيث أن قهر التنوع والاختلاف من شأنه تطهير الكلمات من الشوائب البرانية العالقة بها. فهو يبتغي الوحدة النسقية والإيديولوجية بلا مدلولات آتية من اللغات أو السياقات الأخرى. طبعاً هناك ضرورية داخلية، تنتمي إلى تاريخ اللغة، لمعرفة الدلالة المحايثة قبل مقارنتها بالدلالات الأخرى الوافدة. لكن الحديث بأسلوب التصفية والتنقية هو نـزعة عُنصرية مشينة. إذا كانت "الثقافة" تقابل صنوها الغربـي Culture، فلا مجال لتنقية المنطوق "ثقافة" من الدلالات الغربية. لأن هذا مضيعة للوقت أولاً، ونكران لوحدة العقل البشري ثانياً. إذا كان الفضل يعود إلى سلامة موسى (1887-1958) في اقتران منطوق الثقافة بمنطوق "كولتور"، فلنبني على ذلك قراءات وتأويلات في فلسفة الثقافة بين الغرب والعرب، فهو أقرب إلى الحصافة من هوس التصفية والتنقية.
3- عائق الدقة اللامتناهية الذي لا يبتعد عن العائقين السابقين من حيث الحديث بتعابير قسرية-قهرية من قبيل: الدقة، الوضوح، المنهجية، المرجعية، التأصيل، الخصوصية، إلخ. مثلما أن الكلمة لا تُختزل دائماً إلى دلالتها "المعجمية" لأن المسألة هي قضية سياق تداولي وتطور تاريخي وتلقي معرفي؛ كذلك الاشتغال على الكلمات بوصفها مصطلحات ومفاهيم ليس مسألة مقاربات "روبوطية" شبه متحجرة ومتصلبة، لكن مسألة ذكاء عفوي وتكتيكات مرنة. لا مجال للولوج في ترف لغوي وإطناب معجمي تدعمه الإجراءات الرنانة التي تحدثتُ عنها من قبل، وكأن الفكر مسألة التزام قسري-قهري بالعقود والقواعد. أبداً! حتى في صيغته الأكاديمية لم يكن الفكر مسألة مقاربة "فولاذية" للأشياء، بل هو فسحة حرة ولعبة مرنة في التمفصل بالعالم والولوج في جوهر الأشياء. لهذا السبب من يتحدث عن الوضوح وفض الغموض لا يُدرك الطبيعة المعقدة والمتشابكة والملتبسة للواقع الذي تصفه اللغة. كما كان يقول ميشال دو سارتو، لو كان الواقع مسألة إسم وخبر ومفعول به لكانت الأمور سهلة والحقيقة بادية. لكن الأمور هي أعقد مما نظن وتتطلب المسايرة والمواكبة والتمرن على وسائل وأدوات والحديث بأسلوب متموج ومرن وبمنطق براوني وعنقودي؛ وليست حتماً مسألة منهج مطبَّق أو دقّة مملّة.
في حديثي عن فلسفة الثقافة، آثرتُ في الفصل الثالث الحديث عن ثقافة الفلسفة لإبراز التآلف بينهما وكيف أن الفلسفة في تعاريفها المتنوعة كانت تستلهم دائماً من استعارات ثقافية لتشكيل دلالة حول بنيتها وطريقة اشتغالها. لهذا الغرض، الفلسفة هي ثقافة بامتياز أو لنقل بأنها تقف على أرضية ثقافية في نمط مقاربتها للمباحث واشتغالها على النصوص والوقائع. وأوسّع هذه المسألة في القسم الثاني عندما وقع اختياري على ثلاثة محاور كبرى أبني بها فكرتي عن فلسفة الثقافة وهي:
«العمل بالأداة» (الفعل)،
«ابتكار الذات» (الوعي)،
«التواصل بالعالم» (الوجود).
1- أما «العمل بالأداة» فيخص بالدرجة الأولى فكرة الصناعة، وقمتُ في هذا الصدد بإحياء المفهوم العربـي العريق لكلمة الصناعة، لأتحدث بالتالي عن «صناعة الفلسفة». توقفتُ عند هذا المصطلح العربـي القديم لأعيد الاشتغال عليه وربطه بالمبحث الذي يهمني وهو الثقافة التي تقوم هي الأخرى على "منطق صنائعي" في مختلف الابتكارات البشرية؛ واستحضرتُ نماذج معاصرة كانت ترى في الفلسفة عبارة عن صناعة أو إبداع واخترتُ في هذا المقام لودفيج فتغنشتاين (1889-1951) وجيل دولوز (1925-1995). طرحتُ أيضاً فكرة صناعة مفهوم الثقافة بالاعتماد على الأنثروبولوجيا الفلسفية كما ظهرت إرهاصاتها الأولى مع جون جاك روسو (1712-1778) وويليام هومبولت (1767-1835). يتعلق الأمر في الثقافة بالإنسان لأنه المحور الذي تتشكل حوله فكرة الثقافة نظرياً وإنجاز الثقافة عملياً بالصنائع والإبداعات. أخيراً توقفتُ عند علاقة الثقافة بالتاريخ من خلال نموذج مالك بن نبـي (1905-1973) وهيبوليت تين (1828-1893) طارحاً إمكانية أن يكون المفكر الجزائري قد اعتمد على نظريات المؤرخ الفرنسي ليقوم بأقلمتها في السياق العربـي الإسلامي. جاءت هذه المقاربة النقدية كإجابة عن إلحاح طرحه أحد المفكرين الإسلاميين حول مرجعيات مالك بن نبـي. جاءت محاولتي لتبيان عالمية الأدوات التي يشتغل عليها الباحث، سواء اخترعها هو بنفسه أو استفاد بها من غيره، لنضرب صفحاً عن هوس التجنيس والخصوصية وغيرها من المعوّقات الذاتية في النهوض والانخراط في العالم. لهذا السبب تحدثتُ عن ارتحال المفاهيم أسوة بما دوّنه دولوز في هذا المضمار. ومعرفة كيف ترتحل المفاهيم هي معرفة كيف أنها لا تُنتحَل، بل هي في سفر مستمر تكتسب بموجبه التطعيم والإثراء والأقلمة تبعاً للحاجيات والضروريات. أي أنها مسألة تداول واستعمال.
2- وأما «ابتكار الذات» فيخص سؤال التشكيل أو التكوين، واعتمدتُ في هذا السياق على مفاهيم بارزة وتأسيسية في التاريخ الفكري البشري وهي «البايديا» (Paideia) عند الإغريق القدامى بوصفها عملية تربوية وثقافية بُنيت عليها الحضارة اليونانية؛ و«التهذيب» في لغة العرب الذي له هو الآخر مدلول تربوي ثري في النظريات الأخلاقية، الفلسفية منها (الرازي، ابن مسكويه) والصوفية (الحكيم الترمذي، ابن عربـي)؛ وأخيراً «البيلدونغ» (Bildung) عند الألمان وهو مصطلح ثقافي وحضاري زاخر ومفيد، يتعلق بطريقة تشكيل الذات بالملكات والقُدرات، وله علاقة حميمية بطريقة ابتكار الألمان لحياتهم اليومية. سواء تعلق الأمر بالبايديا الإغريقية أو التهذيب العربـي أو البيلدونغ الألمانية، فإنني اخترتُ بعض النماذج البارزة والعيّنات النافذة، وسأوسّع المسألة في دراسات مستقلة تأخذ بنماذج أخرى أو مفاهيم موازية أو متداخلة لا يحتويها هذا الكتاب. وتساءلتُ في ختام الفصل إذا كان بالإمكان الحديث عن "بيلدونغ" عربية إسلامية باشتغالي على نموذجين معاصرين وهما سلامة موسى ومحمد عزيز الحبابـي. كان التساؤل مجرد فكرة حول إمكانية الحديث في الثقافة العربية الإسلامية عن "تشكيل الذات" بالمعنى العميق والثريّ، تاريخياً وفلسفياً، كالذي يكتسيه المصطلح الألماني. هناك بالطبع سمات خاصة ومختلفة قد لا تنطبق عليها "البيلدونغ" في ثرائها المعجمي والفلسفي، لكن السؤال المطروح ينطلق من وحدة الوعي البشري، وهو دأبـي من أول كلمة في هذا الكتاب إلى آخر عبارة. لا يتعلق الأمر طبعاً بإيجاد تماثل عنوة، ولكن أنطلق دائماً من الفكرة القائلة بأن السمات المتميزة والفروقات المتنوعة لا تعني الاختلاف المطلق والراديكالي وإلا أصبحت فكرة الإنسان في وحدته التصورية والسلوكية مجرد عبث ولغو.