كتاب "العلاقات الدولية في الإسلام مقارنة بالقانون الدولي الحديث " ، تأليف د.
You are here
قراءة كتاب العلاقات الدولية في الإسلام مقارنة بالقانون الدولي الحديث
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
أ- صفة الإسلام الدينية والسياسية
يستهدف الإسلام الحنيف تحقيق غايات أساسية كبرى في إصلاح الفرد والجماعة، والدولة، والحياة الاجتماعية في شتى جوانبها، من أجل إقامة المجتمع الفاضل، وتوفير السعادة للناس في الدنيا والآخرة. ومن أجل ذلك تتآزر الأحكام الشرعية المختلفة لتحقيق تلك الغايات، فلا ينفصل حكم عن آخر، كما لا يمكن فصل الروح عن الجسد حال الحياة.
ومن أجل ذلك أيضاً كان الإسلام نظاماً شاملاً للدنيا والآخرة. وفي أحكام الدنيا، سواء في داخل نطاق الدولة أم في خارجها، يرتكز وجود الدولة والكون والحياة على منهج الدين، لا ينفصل أي نشاط للدولة عن الدين.
والدين تشريع متكامل ينظم علاقات الإنسان الثلاث: علاقته بربه وعلاقته بنفسه، وعلاقته بغيره أو بمجتمعه. والدولة تحمي أنظمة الدين وتلتزم بالتشريع سواء الاعتقاد، والأخلاق، والدستور، والسياسة، والإدارة والحكم، والفكر والمنطق والتعامل والاجتماع والاقتصاد.
فلا فرق في نظام الإسلام، أو عند علماء الإسلام بين الأمور الدينية أو الأمور التشريعية، فكلها ذات صفة إلزامية لا مناص منها، وكلها واجبة التنفيذ والاحترام، للفوز برضا الله تعالى، وتحقيق مصلحة الإنسان؛ إذ ليس لله مصلحة أو حاجة نفع ذاتي يعود عليه من جراء الطاعة للأحكام، كما لا تضره معصية أو مخالفة أو تهرب من تنفيذ حدود الله: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 65/1] وصفة الإلزام فيما يمس كيان الأمة والدولة وخططها العامة أشد من إلزام حقوق الأشخاص الخاصة.
والعمل للدنيا كالعمل للآخرة ضروري لإصلاح حياتي الدنيا والآخرة، وكلما تفانى المسلم في عمله الصالح، وأقبل على الحياة عاملاً الخير أو البر والإحسان، مبتعداً عن كل ألوان الشر والفساد والبغي والانحراف، كان دليلاً ساطعاً على تحقيق رسالة الله في الأرض، وعنواناً على حسن حال الإنسان، وأدائه أمانة الله في عنقه، وخروجه من عُهدة التكليف الإلهي، وإقرار خلافة الإنسان العادلة عن الله في الأرض.
قال الله تعالى مبيناً للبشرية منهاج العمل الصالح، وواضعاً مرتكزات الحضارة الواجبة التشييد في العالم على أساس من التفكير والتصميم والإرادة، والعمل والتضحية: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ *} [القصص: 28/77].
وأكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى السامي لمفهوم الحياة فقال: «خيركم من لم يترك آخرته لدنياه، ولا دنياه لآخرته، ولم يكن كلًّا على الناس»[1].
وبما أنه لا حياة ولا بقاء لأي وجود منظم، ولا استمرار للقيم والعقيدة والأخلاق والفضائل من دون وجود السلطة السياسية، فقد اقترن وجود المسلمين في المدينة المنورة بعد الهجرة بقيام الدولة الإسلامية على النحو الذي تقوم عليه فكرة الدولة في العصر الحديث، واعتمادها على عناصر: الشعب، والوطن أو الإقليم، والسلطة السياسية أو السيادة.
فالمسلمون شعب هذه الدولة، ووطنهم المدينة وما جاورها، وحاكمها الأعلى هو النبي عليه الصلاة والسلام، فالنبي كان ذا صفتين: كونه نبياً ورسولاً، مبلغاً شرع الله، وكونه حاكماً صاحب سلطة مدنية وسياسية، فكان مرجع المسلمين في تدبير شؤونهم العامة من تشريع، وقضاء، وتنفيذ، وكان ممثل الأمة أمام غيرهم؛ يراسل الأمراء والملوك والحكام، ويبعث إليهم السفراء والمبعوثين لدعوتهم إلى العمل بالنظام، والاعتقاد الأصلح للحياة. ويعقد النبي عليه الصلاة والسلام المعاهدات مع الأقوام الأخرى، ويعلن الحرب إذا اقتضت الضرورة بعد تشريع الجهاد، ويحافظ على وحدة المسلمين، ويرعى مصالحهم الداخلية والخارجية، ويفض الخصومات بين الناس، ويطبق العقوبات، ويراقب المعاملات في الأسواق، ويحاسب الولاة والعمال، ويخطط لمستقبل أمة الإسلام اجتماعياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً، منفِّذاً وحي الله وشريعة الإله.
وقد مهد الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة لإقامة دولة المدينة عن طريق بيعات العقبة الثلاث، مبتدئاً من السنة الحادية عشرة للبعثة النبوية، بايع فيها أولاً وفود الأنصار من المدينة على التزام مبادئ الإسلام، ثم على احترام نظام الحياة والمجتمع، ثم على الدفاع عن الرسول ممثل الأمة ضد المعتدين.
وهذه البيعات تمثل أصدق، أو أصح صورة واقعية لنظرية العقد الاجتماعي للفقيه السياسي الفرنسي (جان جاك روسو) في القرن الثامن عشر الميلادي، التي حدد بها أصل الدولة على أساس من الاتفاق الاجتماعي بين الأفراد مع فارق واحد، وهو أن مصدر السلطات التشريعية قانوناً هو الشعب، وفي الإسلام هو الشرع.
فكان بدء تاريخ وجود المسلمين كأمة بالمعنى الصحيح، أو الوجود الدولي لهم مقرراً بالهجرة؛ حيث انتقل المسلمون من الموقف السلبي إلى الموقف الإيجابي بمواجهة الأعداء، ومن مرحلة الصبر إلى طريق الجهاد، ومن الفردية إلى التجمع ومن الجماعة إلى الدولة.
وهذا التبكير المؤذن بوجود دولة الإسلام برهان حي على أن الشريعة الإسلامية ليست ديناً فحسب، بل هي أيضاً نظام قانوني له حاكمية كاملة على كل مظاهر النشاط الإنساني في الفكر والاعتقاد، والتصرف والسلوك، والحكم والإدارة، والتربية والاجتماع. بل إن كل ذلك يُحكم الصلة والارتباط بين الدين والدولة، ارتباط القاعدة بالبناء، وهذا هو معنى الإسلام الصحيح.