كتاب " الليلة الخالدة " ، تأليف الشيخ عبد الكريم تتان ، والذي صدر عن
You are here
قراءة كتاب الليلة الخالدة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
مشروع إنارة يعم الأرض كلها
والتفاتة منا إلى البداية لنتمكن بها من متابعة الأحداث العريضة والمواقف البارزة في حياة الدعوة والداعية قبل تلك الاستضافة الفريدة يشرق علينا قول الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 5/15] وقوله: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ *} [إبراهيم: 14/1] ومن حيث إن كلام الله تعالى أزلي أبدي، فإن قرار الإنارة هذا ووسائلها قدّر أزلاً، وما ظهر حتى جاء ظرفه الزماني الذي أطبق فيه الظلام على الأرض وأهلها، وكانت مبادي ظهوره هناك في ذلك الغار المبارك غار حراء!! هناك كان بداية تنفيذ المشروع التنويري الضخم العالمي الذي أريد منه أن يبلغ من الأرض ما بلغ الليل والنهار.
فما قصة وصل التيار تيار إنارة الأرض؟ وما الحال التي كان الناس عليها وقتذاك؟ وما مدى حاجة الإنسان اليوم إلى ذلك النور؟
أما حال العالم إبان وصل تيار الإنارة العالمية، فقد صوره أبو الحسن الندوي بأسلوبه الأدبي، فكشف عن مجموعة من جوانبه العريضة، ونقتطف من كتابه الهام (ماذا خسر العالم من انحطاط المسلمين) مقتطفات نظنها كافية ونافعة، وإن لم ندقق في النقل فعذرنا رصد ما رأيناه الأهم: "كان العالم يوم مبعثه عليه السلام بناء أصيب بزلزال شديد، هزه هزاً عنيفاً، فإذا كل شيء في غير محله، فمن أساسه ومتاعه ما تكسر، ومنه ما التوى وانعطف، ومنه ما فارق محله اللائق به، وشغل مكاناً آخر، ومنه ما تكدس وتكوم... وقد نظر عليه السلام إلى العالم بعين الأنبياء، فرأى إنساناً قد هانت عليه إنسانيته، رآه يسجد للحجر والشجر والنهر، وكل ما لا يملك لنفسه النفع والضرر، رأى إنساناً منكوساً قد فسدت عقليته، فلم تعد تسيغ البدهيات، وتعقل الجليات، وفسد نظام فكره،... يستريب في موضع الجزم، ويؤمن في موضع الشك، وفسد ذوقه فصار يستحلي المر ويستطيب الخبيث ويستمرىء الوخيم، وبطل حسه فأصبح لا يبغض العدو الظالم ولا يحب الصديق الناصح... ورأى عادات فاسدة تستعجل فناء البشرية وتسوقها إلى هوة الهلاك... رأى المواهب البشرية ضائعة أو زائلة لم توجه التوجيه الصحيح، فعادت وبالاً على أصحابها وعلى الإنسانية، رأى أفراداً كخامات لم تحظ بصانع حاذق يضعها في بناء حضاري رفيع، فالسياسة جمل هائج، حبله على غاربه، والسلطان سيف في يد سكران يؤذي نفسه قبل غيره"[1].
وظل الندوي يتابع الأوضاع العالمية بنظرة ثاقبة وفحص دقيق، وقد عرضنا ذلك لنتبين في أي وضع مأساوي كان الناس قاطبة! وفي أي خضم من الفساد الضارب بدأ الرسول الخاتم دعوة التنوير العالمية والتبصير، وهذا يجلي لنا عظمة الجهود المبذولة من خلال عمق التغيير الذي أحدثته الدعوة، وذلك ما رصده كاتب ليس مسلماً نظر إلى تاريخ عمالقة التاريخ الذين كانت لهم بصمات في وجه الحياة، وخص بالدراسة منهم مئة أطلق عليهم "المئة الأوائل"، وجعل قمة هؤلاء المئة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، بناء على حيثيات تبناها في كتابه وقواعد اعتمد عليها، منها عمق التغيير وسعته[2]، وإذا ما كان الحال العالمي بهذه الصورة، فهل كانت الجزيرة العربية في منأى عن تلك الفوضى الضاربة في ميادين التصور والسلوك والأخلاق؟ وإذا مس الاضطراب أولئك الذين تلقوا رسالات السماء من عهد موسى وعيسى عليهما السلام، إذ أغار الشيطان على الثمرات اليانعة التي تدلت من هذه الرسالات فأعطب لبها، وهو التصور وما يتعلق بالتوحيد، فكيف بحال العرب الذين كانوا أبعد ما يكونون عن هدايات السماء، وكانت الجاهلية بكل أصولها وفروعها تسكنهم ويسكنونها، واستمع إذا شئت إلى شهادة واحد من أهل ذلك الزمان أدلى بها في مجلس النجاشي ملك الحبشة حينما حضر بين يديه وسأله، فقال: ما هذا الدين الذي أنتم عليه؟ فارقتم به دين قومكم ولم تدخلوا في يهودية ولا نصرانية؟![3]، قال جعفر في إجابته الواضحة المحددة البصيرة يحكي حالهم قبل البعثة، وما كانوا عليه لما استجابوا للرسول عليه السلام، وما كان من موقف الجاهلية منهم مما اضطرهم إلى الهجرة إلى الحبشة قال: "أيها الملك! كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف". أرأيت إلى هذا التحديد في إطار الاعتقاد والعبادة والأذواق والمعاشرات، والعلاقات الاجتماعية، وسطوة القوة الغاشمة؟ أكان بعيداً عما قرره أبو الحسن فيما سقناه له؟ وقد بدأ فحدد الموقف من الحياة حيث قال: "أهل جاهلية"، وكل ما ساقه بعده هو نتاج لذلك الموقف، ومن هنا جاء الإسلام ليناصب الجاهلية بكل صورها، تصوراً وأخلاقاً، العداء، وقد تابع جعفر فقال: "فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان..." وعدّد عليه أمور الإسلام، ثم كشف عن موقف عباد الحجارة من هذه الدعوة، فقال: "فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث... فلما قهرونا وظلمونا وضيّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك..."[4] ، فشهادة جعفر جلّت ما كان عليه المحيط العربي في الجزيرة العربية كلها.