كتاب " ساق الريح "، تأليف ليلى مهيدرة ، والذي صدر عن مؤسسة الرحاب الحديثة للنشر والتوزيع .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
You are here
قراءة كتاب ساق الريح
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

ساق الريح
ماذا لو كنت أنا المقصودة بتلك الرسائل، فليس هناك دليل على تلك المرأة إلا بعض التفاصيل التي قد تعني أية امرأة؟
ماذا لو كنت أنا والرسائل، منذ البدء، هي موجهة لي وهو الذي تعمد أن يتركها تحت عتبة بابي، وماذا لو كان الاسم مجرد تخمين ليوقظ ثورة المرأة المحبة للاستطلاع بداخلي؟
كيف لكلمات غامضة على الورق، أن توقظني من غيبوبتي وأن تخرجني من شرنقتي، عزلتي التي اخترتها عن قناعة وعن سبق إصرار، كما فتحي لهذه الرسائل، أتراها رسائل من قدري الذي خلته لزمن قد تخلى عني وأرغمني أن أغلق كل النوافذ الحياتية كما أغلقت القنوات التلفزيونية، التي صارت تكرر مشاهدها كنوع من التعذيب والتعتيم الإعلامي، والتي كانت تعبيراً صادقاً وصارخاً لغبائنا، كلما حاولنا البحث عن فهم ما يحدث أو التصديق بأنه قد يكون هناك حل لكل هذه الحروب، التي تخترق حياتنا عنوة والتي لم تكن سوى آخر مسمار يطرق في نعش ضمائرنا حتى وديان الدماء، التي تستعرضها أمامنا وأشلاء الجثث المترامية على الأرصفة، والتي نجحت في أن تجعلنا نتعود عليها بشكل أو بآخر، والتي لم تستطع إلا أن تجعلني أقرر دون أن أدري أن أنعزل عن هذا العالم، فلا توقظني لا القنابل الموجهة ضد أطفاله ولا الصرخات ولا حتى أشلاء رصدت لمسلمي بلد لا أدري موقعه على الخريطة والذي ينفر فضولي لمعرفته.
لا أدري حتى لمَ خضت في هذا الحوار، الذي رغم أهميته لا أريده بأي شكل من الأشكال، أن يكون تأريخا لزمن عشته فأفقدني الإحساس به، فأقسى درجات الألم أن تفقد الإحساس به، وأن تجد نفسك بمعزل عن الآخر، على هامش عالم لا يمت لك بصلة، لا تعرفه ولا يعرفك أو بالأحرى لا يتعرف إليك، في نفس الوقت الذي لو تصرخ في الناس لتعلمهم بأن ما يعيشوه ويرسم على وجوههم أشكالاً معينة، مما قد يصطلح على تسميته بالفرح أو الحزن أو الامتعاض حتى، ليست عدا وسيلة مظللة لتصنع العيش ومحاولة إيحاء للآخر، بأنه لولاك لما اكتملت الصورة الاجتماعية رغم اقتناعك، أنك لا تملك من مكان إلا بقعة ترابية صغيرة بحجم جسمك، تساعد أشلاءك على التحلل، ولتصبح نقشاً على صخرة تطؤها الأقدام يوماً ما دون حسرة.
كم هي غريبة هذه التناقضات بداخلي، أمورٌ جعلتني أدفن نفسي في قبر أكبر، أتعامل مع أناس محاولة ألا أرتبط بهم بأي شكل من الأشكال، وحتى يكون تواصلي بهم بقدر أبسط ما يمكن أن يقال عنه موت من نوع آخر، حتى ليخيَّلُ إليّ أني قد قضيت أياماً كاملة دون أن أنبس بكلمة واحدة، وشهوراً دون إحساس أو حتى ردة فعل.. عزلة مطلقة، انفصال، أو بتعبير دقيق فصل... تماماً، كما يفصل جهاز عن الشحن فتراه ميتا لا ينبس بصوت ولا يعترف بالحياة، حتى الحروف التي تؤنسني والخيط الرفيع الذي يربطني بعالم الأحياء، كانت مجرد كلمات متجمدة على كفن الورق، لا تكاد تبوح بأية مشاعر غير جليد العبارات، ولكأنها تأكيد على قناعتي التامة بأن الموت يحيطني من كل الجوانب.
الجمل لا تعني شيئاً، سوى عادة دفينة لتقديس الورق الأبيض والقلم، الذي يتحرش به كمحاولة فاشلة لإضرام نار الحروف كنوع من الربط ما بين عصر حجري تحتك فيه الحجارة بالحجارة لتشعل ناراً، وعصر تحتك فيه الأقلام بالأوراق لتكتب الفشل في إشعال النيران أو حتى إطفائها، في زمن الكل صار فيه صاحب قلم ورأي، والكل صار كاتباً وشاعراً وإعلامياً، سخافة قدر تباع فيه الأقلام والكتب على الرصيف بأبخس الأثمان، والكل يخلق لنفسه وهماً بأنه قد يوجد الحلول بجرة قلم، حيث انتفى دور القلم الأحمر وحتى الخط الأحمر، وأصبحت العبارات تتسابق نحو المحظور لعلها تنال السبق.
لا أدري متى توقف الزمن بي، وبالتالي كيف صارت الصحف والمجلات والكتب متوقفة متشبثة برفوف مكتبتي، وكأنها قد كسبت سباق الكراسي، الذي كنا نلعبه ونحن صغار وترفض أن تغادر أماكنها إلا بثورة مني، والثورة - ربما- حانت بهذه الرسائل، التي كانت أقوى من كل الصور الشاذة على شاشة تلفازي، والعناوين المثيرة على الصحف ومجلات الرصيف بصورها المتعرية من كل شيء والمتحررة من التحرر ذاته، بضع أحرف بأسماء ربما مستعارة على ورق شفاف استطاعت ما لم يستطعه غيرها، وأجدني أستسلم لها، وأبتغي منها بعض الدفء والنبض أيضاً، انبعاثاً من نوع آخر، وإلا كيف استطاع أن يخرج هذه المومياء من أسمالها ويوقفها أمام المرآة من جديد، ويرغمها بأن تراقص خيالاً منبعثاً من حروف لم تكن لها أصلاً، كلمات عن الحب في زمن أجمع فيه الكل أن لا مكان للحب فيه، ثنائية صارخة للتضاد، تضاد لا يمكن أن يشبهه غيري أنا..