You are here

قراءة كتاب رسائل حب بالأبيض والأسود

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
رسائل حب بالأبيض والأسود

رسائل حب بالأبيض والأسود

كتاب " رسائل حب بالأبيض والأسود " ، تأليف طلال زينل سعيد ، والذي صدر عن منشورات الضفاف للنش

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 7

تمّ تعييني في كلية التربية للبنات في جامعة تكريت حتى قبل أن أناقش أطروحتي للدكتوراه، وباشرت في الكلّية منتصف شهر تشرين الثاني تقريباً من عام 1991، ودرّست طالبات السنة الرابعة مادتي الأدب الحديث والنقد الحديث، وليس بوسعي طبعاً في هذه المناسبة أن أتحدّث عن تجربتي الثرية الخصبة الآسرة والشائكة في هذه الكلية، بكلّ ما شابها من التباس وتعقيد وتداخل وحسد وغيرة وربح وخسارة وليل ونهار وحلم وواقع وجنون وحيرة وضباب وغبار ونار ونور وحبّ وكره وصداقة وعداء وصفاء وغيم ومطر وبرق ورعد وتفاهة وحساسية وخبث ونذالة وفقدان وحماقة وكلّ شيء تقريباً، لأنّ ذلك بحاجة إلى كتاب كامل قد تتاح لي فرصة وضعه في قابل الأيام، وربما يكون صديقي المبدع فرج ياسين قد أتى على جزء يسير منه في شهادته اللمّاحة عني.

لكنّ تجربة عشرين سنة في جامعة تكريت حصل فيها ما يحكي تجربة حياة كاملة تقريباً ملغومة بالفتوحات والمسرّات والخيبات ليس من السهل احتواءها، إذ من حقّها عليّ أن أقدمها في كتاب كامل أو ربما رواية، عشرون سنة أخذت مني الكثير وأعطتني الكثير، وأحسب بقدرٍ مناسب وضروريّ ومقصود من الغرور القول إنّ غباري الملوّن في أرض الجامعة وسماء المدينة معاً متناثر في كلّ الأرجاء، وليس من السهل التخلص منه، أو محوه، أو التقليل من خطورته وسطوته، مهما ظنّ وتمنّى ودعا من يقلقه هذا الغبار، ويزكم أنفه، ويحجب عن عينيه المريضتين مسار الرؤية بوضوح وواقعية.

ومع أنني كنت أتمنى أن يأتي تعييني في جامعة الموصل، إلاّ أنني سرعان ما تقبّلت الأمر وسعيت إلى أن أواصل حلمي في مشروعي الأدبيّ والثقافيّ والأكاديميّ، ومع ذلك لم تكن الأمور ميسّرة على النحو الذي يسمح لي بالتحرّك الحرّ كيفما أشاء، لذا خفّ حماسي بعد ذلك بقليل وانتبهت إلى نفسي وأصغيت بعمق ومحبة ورحابة وتأمل هذه المرّة للنداء الذي لم تخفّ جذوة حماسه مطلقاً، وكان أن حصلت نهاية عام 1994 على لقب أستاذ مساعد، وفتحت كلية التربية للبنات أبواب دراسة الماجستير، وأعترف هنا على وجه الدقّة أنّ هذا العام بظروفه المثالية هذه أتاح لي لأول مرّة اكتشاف ذاتي لأعرف بالضبط أين أنا، وماذا أريد.

يا إلهي كم تأخر هذا الأمر، لكنني لم التفت إلى الخلف- كعادتي دائماً- ورحت أسابق الزمن لأضع هذا الاكتشاف المدهش موضع التنفيذ والإنجاز، وعملت في هذه الأثناء على أول كتاب لي نشرته على فصول هو ((السيرة الذاتية الشعرية))، واشتركت فيه عام 1998 في مسابقة الشارقة للإبداع العربيّ في دورتها الثانية، وفاز بالجائزة الأولى، فعرفت حينها أنني أدركت الطريق ورأيت الضوء في نهاية النفق كما يقولون.

أعترف أن عام 1999 عام التسعات الثلاث هو عامي، إذ بدأت ألفت الانتباه بقوّة إلى اسمي على صعيد عربيّ- في الأردن وسوريا خاصة -، إذ نُشرت لي عشرات المقالات المهمة في صحف ومجلات البلدين وبكثافة ظنّ الكثير من قرائي فيما بعد أنني أقيم فيهما، مع أنني كنت أبعث مقالاتي بالبريد العادي حتى وصفني أحد الأصدقاء بأنني كاتب شبه يوميّ في الصحافة الأدبية الأردنية، وانفتحتُ بعدها على المجلات الأدبية الأخرى في الوطن العربيّ، وبدأت أراسل بعض الجامعات العربية للإسهام في مؤتمرات علمية تقيمها، وقد أصبت أكثر من مرّة بالإحباط حين لم أتمكّن من السفر بسبب صعوبة الإجراءات وتعقيد الموافقات الأمنية والرسمية، ولم أفلح في السفر لهذا الغرض حتى عام 2002 حيث أسهمت في مؤتمر ((التجربة الشعرية السورية الحديثة)) في جامعة تشرين في اللاذقية، وكنت بلا أدنى تواضع أحد نجوم المؤتمر على الأصعدة كافة، تعرفت في هذا المؤتمر على البحر وعلى حورية البحر، وكانت فرصة ثمينة وغالية لن أنساها ما حييت.

غادرت بعد نهاية المؤتمر إلى دمشق مع أصدقائي الجزائريين الذين تعرفت عليهم وأحببتهم جداً، إذ قضيت ثلاثة أيام قبل أن أغادر إلى عمّان للإسهام في مؤتمر جامعة جرش، وقد استغرقت سفرتي عشرين يوماً عدت بعدها إلى الموصل من عمّان مباشرة، وبعدها توالت السفرات والمؤتمرات بكثرة وكأنني كنت متعطشاً لهذا النشاط الجميل الذي أثراني كثيراً، واتسعت دائرة النشر- كتباً ومقالات- حتى أصبحت من أنشط أصدقائي في هذا المجال، إذ نشرت حتى الآن أكثر من ثلاثين كتاباً وأسهمت في أكثر من ثمانين مؤتمراً وندوة وملتقى في الكثير من البلدان العربية والصديقة.

بهذا الانفتاح على الفضاء الثقافيّ ضاق اهتمامي بالجانب الأكاديميّ الصرف في حياتي، فقد وجدت نفسي خارج الجامعة لا داخلها، وذلك لأنّ الجامعة ظلّت تتعثّر بأفقها الضيّق المدرسيّ المحدود، ولم تكن تنظر إليّ وأنا أحقق هذه النجاحات بالقدر الكافي من الضوء فأهملتها، وسعيت بأساليب كثيرة إلى أن أحدد عملي الأكاديميّ بأقلّ جهد ممكن، حتى وصل في السنوات الأخيرة إلى أن أدرّس مادة واحدة في مرحلة الدكتوراه وأقدّم محاضراتي مرة كلّ أسبوعين، وهكذا كانت علاقتي بالجامعة ضعيفة إلى أقصى حدّ، وبالمقابل لم أكن أنا وبكلّ ما أنجزته أعني شيئاً بالنسبة للجامعة، حتى أنني فزت بالجائزة الأولى في مسابقة الشارقة للإبداع العربـي في مجال النقد الأدبيّ، ولم يقل لي أيّ مسؤول في الجامعة كلمة مبارك أو شكراً، وحين قرأت في الصحف الأردنية أنّ ملك الأردن استقبل الشاعر الأردنيّ الذي فاز معي بجائزة الشعر وكرّمه عرفت كم أنا غريب، وفزت بعدها بجوائز أخرى عن أعمالي النقدية والشعرية وبقيت جامعتي غير مكترثة بذلك مطلقاً.

ومع كلّ بُعدي عن الجامعة وغربتي فيها لم أكن مرغوباً سوى من بعض زملائي القلائل جداً الذين يفهمون نغمتي ويفكرون معي على الموجة نفسها، وثلة من طلبتي الأذكياء الذين كنت أتحمّل قسوة الجامعة وظلمها لأجلهم، ولم أكن أحسب لذلك في جوهري أيّ حساب، فثمة قوانين راسخة في الحياة تؤكد أنني الرابح في النهاية والجامعة هي الخاسرة حتى وإن أدركتْ الجامعة خسارتها بعد حين، وأنا هنا بطبيعة الحال لا ألوم أحداً قطعاً، فالكلّ كان يدافع عن أنموذجه بقوّة وعنف وشراسة وقسوة، لكنني في أعماق هذه العاصفة الصفراء التي ما برح الكثير من الصغار يديمون ما تيسّر لهم من غبارها اللعين كنت الأقوى حضوراً، وظلّت سمائي صافية وقمري مضيئاً ونجومي أكثر بريقاً ولمعاناً وتحدياً، على النحو الذي بقي اسمي الأصيل فيه يستلقي على المتن برحابة وألق وهيمنة وسحر وإثارة، فيما انحشرت أسماؤهم المتآكلة الطارئة في فضلات الهوامش المهملة بلا ملامح.

اليوم بعد أن نَقلتُ بيسرٍ عجيب- بلا وداع ولا ألم ولا دموع ولا دعوات- كامل أمتعتي وحوائجي وفضائي وقلبـي وطموحاتي ومشاريعي إلى جامعة الموصل، وقد تركت ورائي عشرين سنة حافلة بالغيم والغبار في رحاب جامعة تكريت مرّت كطيف غائمٍ دبقٍ جمعَ الأخضرَ واليابس، الغثّ والسمين، الصيف والشتاء، العلقم والعسل، الزمن والمكان، الطعنات والقبلات، الهزائم والانتصارات، في قارورة شفافة واحدة، بوسعي أن أدير ظهري قليلاً من أعلى القمّة التي أتربّع عليها فوق هرم كتبـي الذي يشقّ بهاؤه عنان السماء يوماً بعد آخر، بوسعي أن أتأمل ما تركته من ظلال دافئة مخضلّة بالحنين مرّت عليها أقدامي الحافية الحانية، وأشجار ذكية وعاشقة حجبت روحي عن عيون المتلصصين، وزوايا خفية مضمّخة بالطراوة والعبث والجنون الجميل ستبقى تنطق باسمي أبد الدهر، وضمائر ميّتة ستندم ذات يوم على أنها قطعت ببربرية وحشية جدائل الشمس، وصغار لن يكبروا يوماً ما لأنّ الله خلق واحدهم قزماً لن تنفعه أيّة عملية تجميل يمكن أن ترفع رأسه المتدلّي قليلاً إلى أعلى، وسحليات صغيرة غبية وعمياء لم تُخلق إلاّ كي يدوس عليها الآخرون، لكنني بالمقابل تركت مروجاً خضراء متموّجة تعبق بالموسيقى، لا تكفّ عن العزف والغناء والفرح والرقص والجنون، وينابيع أصيلة لا أحسب أنّ مياهها النقية الزاهية ستجفّ يوماً ما، وحسبـي ذلك.

لست نادماً مطلقاً على شيء، فكلّ نجاحاتي مقيّدة باسمي، وكلّ إخفاقاتي أيضاً، كلّ فتوحاتي ممهورة بختمي، وكلّ حماقاتي مدوّنة بأمانة وثقة في سيرتي، لن أتنازل عن شيء مما عرفت وخضت واخترقت وربحت وخسرت، كلّها أسهمت في صنعي على النحو الذي أريد وأتطلّع، وكلّها أسست لتاريخ ساطع يحقّ لي أن أفخر به وأتباهى، فدمي الآن أكثر غزارة وحرارة وجبروتاً وإضاءة، وكذلك عرقي، رغبتي في الحياة أوسع وأعمق وأكثر حضوراً وتألقاً، زرت بلداناً كثيرة وعرفت نساء كثيرات، زرعت أشجاراً لا حصر لها في بطون الوديان وعلى سفوح الجبال، احتسيت الكثير من دموع الملكات المعتّقة وأكلت الكثير من التين البرّي الباذخ المذاق، ولم أكن أبداً يوماً ما من صيادي الحضائر، فالبريّة دائماً هي ساحة صيدي وملعبـي، وعلى هذا فإنّ دمي لا يحوي قطرة واحدة فاسدة ولا مزوّرة، وجسدي ينتمي بكليته إلى الطبيعة الحرّة التي لا تتغذى إلاّ على الطازج البكر.

Pages