كتاب " كراهية الديموقراطية " ، تأليف جاك رانسيير ، ترجمة أحمد حسان ، والذي صدر عن دار التنوير للنشر والتوزيع
You are here
قراءة كتاب كراهية الديموقراطية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
يقدّم كتابُ ميلنر العكسَ تمامًا لهذا الاعتقاد السائد من قبلُ، ففضيلةُ إسرائيل من الآنَ فصاعدًا هي أن تعني نقيضَ المبدأ الديموقراطي؛ وفقَد مفهومُ الشموليّة كلّ معنى، وفقَد النظامُ النازي وسياستُه العنصريّةُ كلَّ خصوصيّة نوعيّة. وثمة سببٌ بالغُ البساطة لذلك، فالخصائص التي كانت بالأمس تُنسب للشموليّة، المفهومة باعتبارها دولةً تلتهم المجتمع، قد أصبحت بكلّ بساطة خصائصَ الديموقراطيّة، المفهومةِ باعتبارها مجتمعًا يلتهم الدولة. وإذا كان هتلر، الذي لم يكن همّه الأكبر هو نشر الديموقراطية، يمكن فهمُه باعتباره الفاعلَ الإلهي لهذا النشر، فذلك لأن المناهضين للديموقراطية اليوم يسمّون ديموقراطيةً نفس الشيء الذي كان المتحمّسون لـ«الديموقراطيّة الليبراليّة» بالأمس يسمونه شموليّةً: نفس الشيء بالمقلوب. ما كان يجري شجبُه منذ عهد قريب على أنه المبدأ الدولتي للشموليّة المغلقة يجري شجبه اليوم على أنّه المبدأ الاجتماعيّ للامحدودية. يصبح هذا المبدأ المسمّى ديموقراطيةً هو المبدأُ الذي يضمّ الحداثة المأخوذة ككلّيةٍ تاريخيّة وعالميّة، لا يعارضها سوى اسم اليهودي كمبدأٍ للتقاليد الإنسانيّة المُصَانة. مازال يمكن لمفكر «أزمة الديموقراطية» الأمريكي أن يقيم تعارضًا، باسم «صدام الحضارات»، بين الديموقراطية الغربية والمسيحية وبين إسلامٍ مرادفٍ للشرق الاستبدادي(5). أمّا مفكّرُ الجريمة الديموقراطية الفرنسي فيقترح طبعةً أشد جذرية من الحرب بين الحضارات بأن يقيم تعارضًا بين الديموقراطية، والمسيحية، والإسلام مختلطين، وبين الاستثناء اليهودي الوحيد.
يمكن إذن، في تحليلٍ أولي، تحديدُ نطاق مبدأ الخطاب الجديد المناهض للديموقراطية. فالوجه الذي يرسمه للديموقراطية يتشكّل من ملامح كانت تُنسب للشموليّة من قبلُ. إنه يمرّ إذن بعملية تشويه ملامح، فكأن مفهوم الشمولية، الذي جرى نحتُه وفق احتياجات الحرب الباردة، بعد أن صار بلا فائدة، أمكن لملامحه أن يتمّ تفكيكها وإعادة تركيبها لتُعيدَ تشكيلَ وجهِ ما كان نقيضَها المفترض، الديموقراطية. ويمكن تتبّع مراحل هذه العملية لتشويه الملامح وإعادة التركيب. لقد بدأت عند منعطف أعوام عِقد 1980 بعمليةٍ أولى تطرحُ للتساؤل التعارضَ بين مصطلحين. وكانت الأرضيةُ هي إعادةُ بحثِ التراث الثوريّ للديموقراطية. وقد تمّ التشديدُ بالضبط على الدور الذي لعبه عملُ فرنسوا فوريه(ت) بعنوان، التفكير في الثورة الفرنسية، المنشور عام 1978. لكن لم يكد يتم إدراكُ المجال المزدوج للعملية التي أحدثها. فإعادةُ وضع الإرهابِ في قلب الثورة الديموقراطية، كان، على المستوى الأوضح، بمثابة تحطيمِ التعارُضِ الذي شكّل بنيةَ الرأيِ السائد. الشمولية والديموقراطية، كما أشار فوريه، ليستا تعارضينِ حقيقيين. فقد كانت سيطرةُ الإرهاب الستاليني متوقعةً في سيطرة الإرهابِ الثوري. لم يكن الإرهاب الستاليني انزلاقًا للثورة، بل كان متماهيًا مع مشروعها؛ كان ضرورةً كامنة في ذات جوهرِ الثورة الديموقراطية.
لم يكن استنباطُ الإرهابِ الستاليني من الإرهاب الثوريّ الفرنسيّ شيئًا جديدًا في ذاته. إذ كان يمكنُ لهذا التحليل أن يندرج ضمن التعارضِ الكلاسيكيّ بين الديموقراطية البرلمانية والليبرالية، القائمةِ على أساس تقييد الدولة والدفاع عن الحريّات الشخصيّة، وبين الديموقراطية الراديكاليّة والمساواتية، التي تضحي بحقوق الأفراد من أجل ديانة المجموع والسخط الأعمى للجماهير. بدا إذن أن الشجبَ المتجدّد للديموقراطية الإرهابية يقودُ إلى إعادة تأسيس ديموقراطيةٍ ليبرالية وبراجماتية متخلِّصة أخيرًا من الأشباح الثورية للجسد الجمعي.
لكن هذه القراءة البسيطة تنسي المجالَ المزدوج للعملية. لأنّ نقد الإرهاب له قاعٌ مزدوج. فالنقد المسمّى ليبراليًّا، الذي يستدعي أوجهَ صرامةٍ مساواتيةٍ شموليّة إلى الجمهورية العاقلة للحريات الفردية والتمثيل البرلماني، كان في الأصل خاضعًا لنقدٍ آخر تمامًا، لا تكون خطيئةُ الثورة بالنسبة له هي نزعتُها الجماعية، بل على العكس، نزعتها الفردية. طبقًا لهذا المنظور، كانت الثورةُ الفرنسيّة إرهابيةً ليس لأنها تجاهلت حقوقَ الأفراد بل على العكس لأنها كـرّستها. هذه القراءةُ السائدة، التي بدأها منظِّرو الثورةِ المضادة غداة الثورة الفرنسية، وتناوب عليها الاشتراكيون الطوباويون في النصف الأول للقرن التاسع عشر، وكـرّسها، في نهاية نفس القرن، العلمُ الاجتماعيُ الفتيّ، تجري كالتالي: الثورة هي نتيجةُ فكرِ الأنوار ومبدئه الأول، المذهبِ «البروتستانتي» الذي يرفعُ حُكمَ الأفراد المعزولين إلى مرتبة البنياتِ والمعتقدات الجماعية. وبتحطيمها للتضامنات العتيقة التي كانت قد نسجتها ببطءٍ المَلَكيةُ، والنبالةُ، والكنيسةُ، فإن الثورة البروتستانتية قد حلَّت الرابطةَ الاجتماعية وحوّلت الأفرادَ إلى ذرات. والإرهابُ هو النتيجة الضروريّة لهذا الانحلال ولإرادتها أن تخلق من جديدٍ، بالقوانين والمؤسسات المصطنعة، رابطةً لا يمكن أن تنسجَها سوى التضامنات الطبيعية والتاريخية.


