You are here

قراءة كتاب كراهية الديموقراطية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
كراهية الديموقراطية

كراهية الديموقراطية

كتاب " كراهية الديموقراطية " ، تأليف جاك رانسيير ، ترجمة أحمد حسان ، والذي صدر عن دار التنوير للنشر والتوزيع

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
دار النشر: دار التنوير
الصفحة رقم: 9

هذا الرثاءُ الطويل يحاول أن يصف لنا حالةَ عالمنا كما صاغها الإنسانُ الديموقراطي في أشكاله المتنوّعة: المستهلكُ اللامبالي للدواء أو للبركات الكنسيّة؛ النقابيُ الساعي إلى الحصول دومًا على قدرٍ أكبر من دولة الرعاية؛ ممثلُ الأقلِّية العرقية المُطالبُ بالاعتراف بهُويّته؛ الداعيةُ النسوية المناضلة من أجل حِصص المرأة؛ التلميذُ الذي يعتبر المدرسة سوبر ماركت يكون فيه الزبونُ ملكًا. لكن، من الواضح تمامًا أن هذه العبارات التي تقول إنها تصفُ عالمَنا المعاصر في زمن متاجر الهايبرماركت وتلفزيون الواقع، تأتي من مكان أبعد. فهذا «الوصف» لواقعنا اليوميّ في العام 2002 كان قد كُتِبَ، كما هو، منذ مائة وخمسين عامًا، في صفحات البيان الشيوعي: فالبورجوازية «قد أغرقت ارتجافاتِ النشوة المقدسة، وحماسةَ الفرسان، وعاطفيةَ البورجوازيةِ الصغيرة في المياه الثلجية للحساب الأنانيّ. جعلت من الكرامةِ الشخصيّة مجردَ قيمةِ تبادل؛ واستبدلت الحرياتِ العديدة المكتسبة بثمن فادحٍ بحريةٍ وحيدة لا ترحم، هي حريةُ التجارة». لقد «نزعت الهالةَ عن كل الأنشطةِ التي كانت حتى ذلك الحين تعتبرُ مُوقَّرةً ويُنظر إليها بتبجيلٍ مقدّس. وجعلت من الطبيب، ورجل القانون، والشاعر، والحكيم، أُجراءَ في خدمتها».

وصفُ الظواهر هو نفسُه. وما تُسهمُ به عالمةُ السوسيولوجيا المعاصرة من عندها ليست حقائقَ جديدة، بل تفسيرًا جديدًا. فمجموعُ تلك الحقائق له بالنسبة لها سببٌ وحيد: نفادُ صبر الإنسانِ الديموقراطيّ الذي يعامِلُ كلّ الصلات حسب نموذجٍ واحدٍ وحيد: «العلاقات المساواتية من الناحية الأساسية، التي تقوم بين مُقدِّم خدمةٍ وبين زبونه»(10). كان النصّ الأصليّ يقول لنا إن البورجوازية قد «استبدلت الحريات العديدة المكتسبة بثمن فادحٍ بحريّة وحيدة لا ترحم، هي حريّة التجارة»: المساواة الوحيدة التي تعرفها هي المساواةُ التجارية، وهذه ترتكز على الاستغلالِ الوحشي والوقح، على انعدام المساواةِ الجوهري للعلاقة بين «مُقدِّم» خدمة العمل وبين «الزبون» الذي يشتري قوةَ عمله. أمّا النصُّ المُعدَّلُ فقد وضع بدل «البورجوازية» ذاتًا أخرى، هي «الإنسانُ الديموقراطي». وبدءًا من هنا، يمكن تحويلُ مملكةِ الاستغلال إلى مملكةٍ للمساواة، والمماهاةُ دون تحفّظ بين المساواة الديموقراطية وبين «التبادل المتكافئ» للأداء التجاري. بإيجاز يقول لنا نصُ ماركس الذي تمّت مراجعته وتصحيحه إنّ: المساواة في حقوق الإنسان تترجمُ «التكافؤ» في عَلاقة الاستغلال التي هي المثلُ الأعلى المتحققُ لأحلام الإنسان الديموقراطي.

إن معادلة «الديموقراطية = اللامحدوديّة = مجتمع يدعم شجب «جرائم» الديموقراطية»، تفترضُ سلفًا إذن عمليةً ثلاثية: يجب، أوّلًا، أن نُرجِع الديموقراطيةَ إلى شكلٍ للمجتمع؛ وثانيًا، أن نُماهي هذا الشكلَ للمجتمع مع سيادة الفردِ المساواتي، مُدرجين تحت هذا المفهوم كلَّ أنواع السمات المتنافرة، بدءًا من الاستهلاك الكبير وحتى مطالبِ حقوق الأقليات مرورًا بالنضالات النقابية؛ وأخيرًا، أن نصُبّ في حساب «المجتمع الجماهيري الفردي النزعة» المتماهي على هذ النحو مع الديموقراطية، السعيَ إلى نموٍ لامتناهٍ كامنٍ في منطق الاقتصاد الرأسمالي.

هذا الحصرُ للسياسي، والاجتماعي، والاقتصادي في مستوىً واحد، عادةً ما يُنسبُ إلى تحليل توكڤيل للديموقراطية باعتبارها مساواةً في الشروط. لكن هذه الإحالة تفترضُ هي ذاتُها إعادةَ تفسيرٍ بالغةِ التبسيطية لكتاب الديموقراطية في أمريكا. فقد كان توكڤيل يفهم من «المساواة في الشروط» نهايةَ المجتمعات العتيقة المُقسَّمة إلى مراتب وليس سيادة فردٍ شرهٍ لأن يستهلكَ أكثرَ باستمرار. وكانت مسألةُ الديموقراطيّة بالنسبة له هي أوّلًا مسألةَ الأشكالِ المؤسّسيّة المناسبة لتنظيم هذا التجسُّد الجديد. من أجل جعْلِ توكڤيل نبيَّ الاستبداد الديموقراطي ومفكّر مجتمعِ الاستهلاك، يجب اختزالُ كتابيه السميكينِ إلى فقرتين أو ثلاثٍ من فصلٍ واحد من الكتاب الثاني يستحضرُ خطرَ استبدادٍ جديد. كما يجب أن ننسى أن توكڤيل كان يخشى السلطةَ المطلقة لسيدٍ يتحكّم في دولة مركزيّة، على جمهورٍ غير مُسيَّس، وليس استبدادَ الرأي الديموقراطيّ هذا الذي يُصدِّعون به رؤوسنا اليوم. أمكن لاختزال تحليله للديموقراطية إلى نقدٍ لمجتمع الاستهلاك أن يمرّ ببعض المراحل التفسيريّة المتميِّزة(11). لكنّه بالدرجة الأولى محصلةَ عمليّةٍ كاملةٍ لمحوِ الوجه السياسي للديموقراطية، تجري عبر تبادلٍ مُنظّم بين الوصف السوسيولوجيّ والحكم الفلسفي.

يمكن بوضوحٍ تام تبيُّن مراحل هذه العملية. فمن جهة، شهدت أعوامُ عِقد 1980 في فرنسا تطوّر أدبياتٍ سوسيولوجيةٍ معينة، عادةً ما كان يضعها فلاسفة، تحيّي التحالفَ المُبرم بواسطة الأشكال الجديدة للاستهلاك وللسلوك الفردي بين المجتمع الديموقراطي ودولته. وتُلخّص القصدَ من ذلك جيّدًا جدّا كتبُ ومقالات ﭼيل ليپوڤيتسكي(د). كان ذلك هو الوقتُ الذي بدأت تنتشرُ فيه في فرنسا التحليلاتُ المتشائمة القادمةُ من الجانب الآخر من الأطلنطي: تحليلاتُ المؤلّفين المرتبطين باللجنة الثلاثية أو تحليلات السوسيولوجيين من أمثال كريستوفر لاش(ذ) أو دانييل بل(ر). وقد طرح هذا الأخيرُ للتساؤلِ الطلاقَ بين مجالات الاقتصاد، والسياسة، والثقافة. ومع نمو الاستهلاك الجماهيري، وجد هذا الاستهلاكُ نفسَه محكومًا بقيمةٍ عليا، هي «تحقيق الذات». وأحدثت هذه النزعةُ اللذّية قطيعةً مع التقاليد البيوريتانية التي دعمت كلًّا من ازدهار الصناعة الرأسمالية والمساواة السياسية. دخلت الشهيةُ المطلقة العَنان المولودةُ من هذه الثقافة في نزاع مباشرٍ مع قيود الجهد الإنتاجي وكذلك مع التضحيات التي يتطلّبها الصالحُ العامّ للأمّة الديموقراطية(12). وقصدت تحليلات ليپوڤيتسكي وبعض الآخرين معارضةَ ذلك التشاؤم. لا يجب الخشيةُ، كما قالوا، من طلاقٍ بين أشكال الاستهلاك الجماهيري، القائمة على أساس السعي إلى اللّذة الفردية، وبين مؤسسات الديموقراطية القائمة على أساس القاعدة العموميّة. فعلى النقيض، وضَع النمو نفسه للنرجسية الاستهلاكية الاشباعَ الفردي والقاعدةَ الجماعية في تناغم تامّ. أنتجَ التصاقًا أوثق، التصاقًا وجوديًّا للأفراد بديموقراطيةٍ لم يعودوا يحيَونها فقط باعتبارها مسألةَ أشكالٍ مؤسسيّة مُقيِّدةٍ بل باعتبارها «طبيعةً ثانية، بيئةً، مزاجًا عامًّا». «بقدر ما تنمو النرجسيةُ، كتبليپوڤيتسكي، بقدر ما تتغلّبُ عليها الشرعيةُ الديموقراطية، ولو بطريقة لطيفة. الأنظمةُ الديموقراطية، بتعدّديتها الحزبية، وانتخاباتها، وحقها في المعلومات تصبحُ أوثق قرابةً باضطرادٍ مع المجتمع المُشخصَنِ للخدمات الحرّة، والاختبار، والحرية التوليفية. [...] وحتى أولئك الذين لا يهتمون سوى بالبُعدِ الخاصّ لحياتهم يظلّون مرتبطين بالروابط التي نسجتها عملياتُ الشخصنة في الأداء الديموقراطي للمجتمعات»(13).

Pages