You are here

قراءة كتاب غرفة أبي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
غرفة أبي

غرفة أبي

كتاب " غرفة أبي " ، تأليف عبده وازن ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب "

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 1

غرفة أبي

كنت أتصفّح دفاتري القديمة التي اعتدت العودة إليها مرّات في العام، مسترجعا ذكريات لعلها الأحبّ إليّ، عندما وقعت على أوراق صفر كنت كتبت عليها، أيام المدرسة، قصائد قصيرة بخطّ واهٍ، هو خطّ الطفل الذي كنته. لا أدري لماذا احتفظت بهذه القصائد، ولم أرمها مثلما فعلت بأوراق كثيرة كنت أخبّئها حرصاً على لحظات جميلة من ماضٍ لم يكن كلّه سعيدا. كتبتُ هذه القصائد، على ما أذكر، غداة رحيل أبـي، بعضها بالفصحى الركيكة وبعضٌ منها بالعامية، ولم أضع لها عناوين، وكأنّ وفاة الأب هي عنوانها الخفيّ. رحت أقلّب القصائد هذه، البريئة والمشبعة بحزن طفولي، لكنني عوضاً من أن أبتسم كما كان يحلو لي دوماً عند قراءتها، شعرت بحال من الحيرة والاضطراب، وسألت نفسي: متى توفّي أبـي؟ هل يمكنني أن أنسى متى رحل أبـي إلى الأبد؟ لم تكن القصائد تحمل تاريخا يدلّ على عام الوفاة ولا على الشهر واليوم.

لا أعلم لماذا ألمّ بـي هذا الاضطراب المفاجئ. وعندما أعدت القصائد إلى الدفاتر وخبّأتها في الدرج الذي كانت ترقد فيه سألت نفسي: لماذا أصرّ على نسيان تاريخ وفاة أبـي؟ هل ثمة ما أخشاه في تاريخ وفاته؟. لم أستطع فعلاً أن أتذكّر متى توفّي. أذكر فقط أنّه لفظ أنفاسه عند الغروب. ولكن متى؟ لا أعرف. وعندما ألحّ عليّ الأمر، توجّهت نحو الخزانة الصغيرة التي أحتفظ فيها بالأوراق الرسمية، مع أنني كنت على يقين أنّ ليس من سجلّ بين هذه الاوراق يدل على هذا التاريخ. كان ممكناً، في وطأة هذا الإلحاح الذي انتابني، أن أتصل بأمي وأسألها، لكنني أعلم أنها ما عادت تذكر السنة ولا الشهر، فالأشهر في حسبانها تؤرّخ بدورة الفصول، وتعلم أمّي أن زوجها مات في آخر الشتاء. وتعلم جيداً أنّه مات في ريعان الشباب، وأنّ كان له من العمر ثمانية وأربعون عاماً وأنّ البلدة كلّها بكت على شبابه. وكانت تقول لي إنني كان لي من العمر عشرة أعوام. ولكن سرعان ما تذكّرت أنني قرأت يوماً تاريخ ولادته بالعام، وتاريخ وفاته باليوم والشهر والعام، على ورقة خضراء قديمة تميل إلى البهتان وهي عبارة عن "إخراج قيد" كما يقال، وقد شطب اسم أبـي بحبر أحمر. أذكر الآن جيداً هذه الورقة وكيف حلّت بـي الحيرة عندما شاهدت للمرّة الأولى ذلك الخط الأحمر فوق اسم أبـي، ثم علمت لاحقاً من عمّي أنّ مَن يتوفّى يُشطب اسمه من سجّل العائلة. لكنّ الاسم بقي وإن مرّ عليه هذا الخطّ الأحمر الذي قد يكون خط القدر. تذكّرت أيضاً أن هذه الورقة اختفت وأنني سألت عنها أمّي مرة، ولم تكن تعلم مَن أخذها. كانت تقول لي إنها استخرجت هذا "القيد" لأمر يتعلّق بالإرث... وكان لكلمة "قيد" وقع في أذنيّ مستغرب: أيموت الإنسان مقيداً؟ لا أعلم متى لفتتني هذه الكلمة ولا في أيّ آونة من طفولتي. غير أنني ما زلت أذكر وقعها المريب عليّ.

لم يمضِ يوم حتى ذهبت إلى منـزل أمّي، منـزلنا الذي نشأت فيه وعشت أعواماً. لم أذهب إلى مقبرة أبـي لأقرأ تاريخ وفاته على شاهدة المقبرة، كما فعل صموئيل بيكيت أو راويه، في كتاب "حب أول" الذي كنت قرأته، ياللمصادفة، قبل أيام. يقصد الراوي الذي هو بيكيت ربما، قبر أبيه بحثاً عن تاريخ وفاته، تاريخ وفاته تحديداً، لا تاريخ ولادته الذي يقول إنه لا يعنيه. كان عليه أن ينـزع القشرة الرقيقة التي ترسبت على شاهدة القبر ليبصر الأحرف والأرقام... لكنّه ما لبث أن عاد إلى المقبرة بعد أيام ليدوّن تاريخ ولادة أبيه، بغية معرفة العمر الذي توفي فيه، فتاريخ الموت لا بدّ له من أن يُرفق بتاريخ الولادة. لم أقصد قبر أبـي لأقرأ تاريخ موته على "الشاهدة"، فمعظم المقابر في بلدتنا تفتقد إلى "الشواهد"، تلك اللوحات الرخام التي يُحفر عليها اسم الميت وتاريخ ولادته ورحيله. تحمل رخامة المقبرة اسم العائلة فقط، أما الموتى الذي يحلّون "ضيوفا"ً عليها فتغيب أسماؤهم، وحتى هياكلهم العظم، لا تبقى طويلاً هناك، فهي تُجمع وتُلقى في بئر المقبرة ليتسنى للعائلة دفن موتاها الآخرين.

ذهبت إذاً إلى منـزلنا، منـزل أمّي، عساي أجد هذا "القيد" الأخضر القديم فأقرأ فيه تاريخ وفاة أبـي، ولم أكن أعلم تماماً لماذا ألحّ عليّ هذا الأمر. توجّهت فوراً إلى الخزانة في غرفة أبـي، هذه الغرفة التي ما لبثنا نسمّيها باسمه على رغم غيابه الذي جاوز الأربعين عاماً. فتحت الدرفة ووجدت العلبة الخشب في مكانها الذي لم تبارحه منذ سنوات. أخرجت العلبة المملوءة صوراً وأوراقاً وصكوكاً وفتحتها. رائحتها ما زالت هي نفسها منذ سنوات. رائحة خشب ممزوجة بما يشبه رائحة النفتالين. لم تسألني أمي لماذا أفتح العلبة التي كدت أن أنساها ولم أعد أعيرها انتباهاً كما في السابق. بل لعلّها استغربت إقدامي على بعثرة الصور والأوراق التي في داخلها. كانت هذه العلبة الجميلة، المنقوشة والمطعّمة بحبيبات من عاج، علبة "الذكريات" في نظرها. كلّ صور العائلة ترقد هنا، وبينها صور أبـي وهي قليلة وبعضها يضمّه مع أمّي في الأعوام الأولى من زواجهما. وهذه كانت الأجمل لأنها تخفي زمناً لم نعرفه نحن، أبناء العائلة، وكانت أمّي كلما شاهدتها، تغمض عينيها وتتذكر ثم تخبرنا قصص تلك الصور. لكنّ العلبة لم تخل من صور جمعتنا أطفالاً مع أمي وأبـي، وكلّ واحدة منها تروي حكاية أو مشهداً عائلياً. كانت الصور كثيرة في العلبة، علاوة على الأوراق الرسمية، وكانت أمي أضافت إلى الصور القديمة أخرى جديدة وبعضها جديد جداً، لأحفادها الذين غلبت الفتيات عليهم.

Pages