كتاب " غرفة أبي " ، تأليف عبده وازن ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب "
You are here
قراءة كتاب غرفة أبي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

غرفة أبي
ماذا يكتب ابن لأب صار على مرّ الأيام أكبر منه؟ أصبحت أصغر منّي أيها الأب. رحلت أنت في الثامنة والأربعين وها أنا الآن في هذه اللحظة أناهز الثالثة والخمسين. تذكّرت هذا الأمر عندما أصابني داء القلب، هذا الداء الذي أصابك وقضى عليك لأنك تأخرت عن العلاج، كما تقول أمي نقلاً عن الطبيب الذي قال لها: تأخّرتم. المسألة ياأبـي هي إما أن تتأخر أو لا. ليست المسألة أن تكون أو ألا تكون. هذا قول غير واقعي. إمّا أن تتأخر أو لا. لقد تأخرت ياأبـي، تأخرت كثيراً كما تقول أمي. ذهبت إلى الطبيب متأخراً. لكنك أسرعت في موتك، سبقت الشمس إلى غروبها. في موتك وحده أسرعت.
ماذا يكتب ابن لأب أمسى أصغر منه؟ أهكذا تكون الأبوّة؟ إنها اللحظات الخفية التي تفصل بين الابوّة والبنوّة. اللحظات التي تجعل الأبوة بنوة والبنوة أبوة، اللحظات التي تقلب نظام الحياة وتهدم الجدار الفاصل بين زمنين: زمن الأب وزمن الابن. كان انتقال الابن إلى منـزلة الأب قدراً. كان فعل مصادفة أو رمية نرد أو ضرباً من ضروب المجهول. لكنّ هذا الابن لم يتمكّن من أداء دور الأب كما كان يفعل الفتيان عندما يموت آباؤهم. كنت منطوياً على نفسي، خجولاً، خائفاً من أمر كنت أجهل ما هو وما زلت أجهله. لم أكن مهيّأ لأؤدي دور الأب كلّ تلك الأعوام، وكان على أمي أن تؤدّيه هي ولكن بالكثير من البساطة. فهي مهما حاولت أن تقسو علينا كانت سرعان ما تتلاشى قسوتها. كنا نتواجه معاً، أمي من جهة وأنا وأخوتي من جهة ولم يكن أحد يفوز. في مرات قليلة كانت تتمكّن منّا فنذعن، وفي مرّات عندما تنفعل وتغضب تترك البيت ذاهبة إلى بيت جارتها. ثم تعود وكأنّ أمراً لم يكن. حياتنا الخالية من قسوة الأب كانت جميلة. وكنا نعجب كيف أن أبناء الجيران يتحمّلون قسوة آبائهم الذين ما كانوا يتورّعون عن ضربهم وأحياناً بالحزام. كانت إحدى جاراتنا عندما يبدأ زوجها بضرب أولاده تهرب إلى منـزلنا وتختبئ. فهو لم يكن ليوفّرها من لسعات حزامه، ولم تكن هي قادرة على مشاهدة أولادها يُضربون بعنف. لكنها لم تكره زوجها يوماً بل كانت تتكلم عنه بإعجاب. وكذلك الأولاد كانوا ينسون قسوته بسرعة ثم يتذكرونها عندما يعاود ضربهم. لم أحتمل صورة الأب كما تمثلت في جارنا. كنت أقول: لو ظل أبـي حياً هل كان ليكون قاسياً؟ هل كان ليُعمل فينا حزامه؟ معظم آباء رفاقي كانوا قساة. هذه القسوة كانت رائجة كثيراً في أيامنا تلك. وفي ظن الآباء أنهم إذا قسوا على الأبناء ربحوهم. "دع ابنك يبكي لئلا تبكي عليه" كانوا يقولون. ولكن لم أفهم يوماً لماذا كان بضعة رجال في حينا يضربون نساءهم، وبدلاً من أن يقاومن كنّ يخضعن خشية الفضيحة. لم أكن أتصوّر نفسي يوماً أباً لابن. ما كان يعنيني أن يصبح لديّ ابن، كنت أميل دوماً أن يكون لي ابنة، أن أكون أباً لابنة. مَن يكون أباً لابنة فهو يمكنه أن يكون أماً لها. ليس أجمل من أن يصبح الأب أماً. إنها مستقبله. الأمومة هي مستقبل الأبوة. أذكر ذلك الأب الذي توفيت زوجته باكراً فحلّ محلّها. كان يُضرب به المثل في الحيّ. يطبخ ويغسل ويهتم بشؤون الأسرة وكأنّه الأم. لكنّ أمومته لم تسمح له أن يكون أباً صارماً. عندما كبر ابنه راح يقسو عليه وكأنه هو الأب. مرّة ضربه وشتمه على مسمع أهل الحيّ. ابنته بكت. وحدها ظلّت إلى جانبه وكأنه أخت لها. الابن ركل الباب وغادر. عندما كان يعود حيناً تلو حين لم يكن يعير أباه اهتماماً. هذه أجمل صورة يمكن أن تكون لأب هو أمّ وأخت. ما أجمل تأنيث الأب. ما أجمل أن يكون الأب في هذه المنـزلة، في هذا الضعف والتسامح والصمت. كلنا في الحيّ كنّا نشفق عليه، وكنا نجهل أن هذا الأب كان شجرة العائلة، كان اللحاء الذي يخرج من جذع هذه الشجرة، كان الماء الذي تختزنه جذورها. كانوا يقولون بالعامية: الدنيا أمّ. هذه الدنيا يمكنها أن تكون أباً إن كان الأب أمّاً.
ما الذي جعلني أتذكّر الآن هذا الأب المفرط في أمومته؟ هل كنت أتخيّل أبـي أمّاً؟ هل كنت أرسم له صورة تشبه صورة ذلك الأب الرقيق؟ وأمي؟ هل كنت أتخيلها أباً في حال من الأمومة أم أمّاً تفيض أبوّة؟ هذه أفكار وربّما أحاسيس ظلّت راقدة فيّ ولم تخرج يوماً إلى الضوء طوال تلك الأعوام التي مضت على رحيل الأب. كلّ ما أذكره أنني لم أكره أبـي يوماً. كنت أحب أن أُسمّى ابن قيصر وليس باسم أمّي كما درج أهل الحيّ على مناداة الأولاد الذين يفقدون آباءهم باكراً. وعندما باشرت الكتابة كنت أوقّع اسمي مرفقاً باسم أبـي والعائلة: عبده قيصر وازن. ولا أعلم الآن متى حذفت اسم الأب ليحتل اسمي التوقيع وحده.
لعلّ ما كان يعزّيني أنني تخلّصت من همّ الضرب باكراً. كان ضرب الآباء لأبنائهم الذين هم رفاقي في الحي، همّاً يساورني صغيراً. لو كان أبـي حياً هل كان ليضربني بهذه القسوة؟ كنت دوماً أسأل نفسي. وكنت أتخيّل دوماً أنني لن أدعه يضربني وأنني سأقاومه. لكنّ أمي كانت تقول لنا إنّ أبـي ما كان ليُقدم على ضربنا، مع أنّه كان قوياً وصلباً. كانت تروي لنا كيف ضرب شقيقه مرّة عندما دخل عليه في الصباح ووجده مع عشيقته في السرير. كانت زوجة عمّي تنام مع الأولاد في الصالون وعمّي والعشيقة على السرير في غرفة النوم. هبّ أبـي كالمجنون، تقول أمي، أيقظهما وراح يضربهما شاتماً إياهما، ثم طردهما من المنـزل الصغير الذي يجاور منـزلنا. سرت الواقعة في الحيّ والبلدة وبات الجميع يتندّرون بها مادحين أبـي. وتخبر أمي عن منظر عمّي والعشيقة راكضين نحو سيارة عمّي وهاربين أمام أنظار الجيران. كلما أخبرتنا أمي هذه الحكاية كانت تضحك. هل يمكن أن يطرد زوج امرأته من غرفة النوم ليرقد مع عشيقته على سرير زواجهما؟
كنت أفتقدك أيها الأب بالسرّ. لم أبح يوماً أنني احتجت إليك. بل كنت دوماً أوهم الآخرين أن الابن يمكن أن يكون بلا أب، أن يكون هو الأب. لم أضعف يوماً أمام الرفاق، مع أنني كنت أشعر دائماً أنّ ضلعاً من أضلاعي مكسورة ولن يجبرها أحد. أنّ لديّ جرحاً في الداخل لم يندمل. وكان كلما شاهدني أحد حزيناً- وهذا من طباعي- يظنّ أن السبب هو الأب. وكلّما لمس الأقارب أنني شبه منعزل ومنطوٍ على نفسي ظنّوا أن غياب الأب ما زال يؤثر فيّ. وكنت أكره نظراتهم إليّ، أنا الصبيّ الذي لم يعرف يوماً كيف تمازج الحزن والحبور في حياته، الألم والحلم، الانطواء واللعب... كيف كان في الحين نفسه ملاكاً وعفريتاً صغيراً، يمامة مجروحة ودوريّاً متفلتاً من الأسر.
كانوا يصفون الأب برتاج الباب. كنت أحب هذا التشبيه. كان بابنا بلا رتاج مثل حياتنا نحن وأمّي. كنت أنظر إلى الرتاج المسند على باب الجيران وأسأل: هل تخافون السارق؟ هل تخشون "الحرامي"... كما كنّا نردّد صغاراً، متخيّلين هذا "الحرامي" شبحاً يحلّ في الظلام فيدخل المنـزل ويسرق... لم يغادرني يوماً حال من القلق لم أعرف له سبباً، قلق والأصح لا طمأنينة. كانت تنقصني الطمأنينة دوماً، الطمأنينة أو الأمان. هذا الشعور ظلّ يخامرني أعواماً طوالاً. في الداخل فراغ لا يمكن ملؤه، في الداخل نقصان يظلّ ناقصاً. حتى غرفة الأب، هيكل الطمأنينة لم تكن توفر لي ذلك الأمان الذي طالما بحثت عنه. إنها غرفة الأب ولكن بلا أب. الغرفة التي أضحت غرفة الابن هل يمكنها أن تحفل بالطمأنينة؟