كتاب "بائع التماثيل" للكاتب والفنان التشكيلي السوري فاتح المدرس، يحوي مجموعة قصص، نقرأ من قصة "بائع التماثيل" التي حمل الكتاب عنوانها: ""كور تسفاتس بوكريا أخشيكمه" بهذا كان ينادي لبيع تماثيله الملونة الصغيرة؛ فالبارون أرتين عجوز أرمني فقد كل شيء خلال هجرته
قراءة كتاب بائع التماثيل
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 3
وهكذا نهضت "عالو" ومشت بهمة, ترمق بين آن وآخر أصابع قدميها المحترقتين. وأحست أن ماءً يغلي في أعماق أذنيها, فضغطت عليهما براحتيها فتحول الهدير إلى وشيش, ثم عاد فاتضح أنه دوي تيارات النهر القريب, يخالط حشيش أوراق الصفصاف على جانبيه, وتذكرت لتوها تحذير أمها لها: "ستموتين إذا وقفت في عين الشمس.. عودي إليّ بعد أن تعطيك زوجة الآغا حبة الكينا".
ولكن لماذا طردتها زوجة الآغا, ولم تعطها الدواء؟ وكانت عيدان الحصاد تبدو وكأنها مسكوبة من زجاج أصفر, فهو هشيم, ولم تستطع أن تفهم لماذا منعوا عن أمها المريضة حبة الكينا, ومر سرب من الجعران الأخضر فوق رأسها فبعثرت شمله بالعود الذي في يدها, وكادت أن تنسى مهمتها, فهي ذاهبة إلى النهر في شغل. الدواء على شاطئ النهر كما قال الآغا: "خذي عوداً من النعناع إلى أمك أيتها العمياء".
هذا ما أمر به الآغا...
"ولا يوجد عندنا طوقتور يوزع الكينا".
هذا ما قاله الوكيل ساخراً, وكان هنالك عسكري جالس على حافة عتبة باب "الأوضة" يأكل لحماً فلم يطعمها. وتمنت أن تكون ذلك الكلب الذي يكسر العظام بأسنانه. ولكن هي ذاهبة في مهمة, "إلى النهر يا عالو"؟ وضحك منها كل من كان في الأوضة عندما تعثرت بالكلب, وخرجت باكية.
ورفعت البنت الصغيرة وجهها إلى الشمس أول مرة, بعد أن أغمضت عينيها, لترى ما إذا كانت الشمس حقاً ظالمة كالآغا أو كزوجته "فظلة", ودقت الصغيرة بقبضة يدها على صدرها ـ كما يفعل الكبار ـ وصاحت "ربم.. ناقدر ظالم" وأطرقت لحظة وقد جمد وجهها فشدت على صدغيها بكفيها ومشت مترنحة نحو النهر.
وارتفع الأفق الشرقي كأنه جدار قد من زجاج رمادي رجراج, كان النهر بعيداً وأمها مريضة, والأرض حمراء كالتنور, فهبط قلبها غماً وعطشاً فجلست دفعة واحدة على الأرض, وراحت تبكي معولة, ولم تلبث أن نهضت معتمدة على ركبتها ـ كما يفعل الكبار ـ ومشت, فبرقت عيناها الزرقاوان بعد هذا البكاء, وابتسمت بلا سبب كما بكت, ومسحت ـ وهي تمشي ـ عينيها بكفها الأيمن, ثم بكفها الأيسر, وتسربت بقايا الدمع إلى حلقها فبلله بقطرات مالحة, وكانت "عالو" قد بلغت "قبور الكاور" وهو المكان الذي إذا وقف الأطفال الكبار على صخوره المنبوشة شاهدوا النهر, فتسلقت إحدى الصخور ووقفت جاهدة على رؤوس أصابعها, وحجبت بكفها اليمنى الشمس عن عينيها, ومطت عنقها. ولكنها لم تجد النهر.. إلا أن ريحاً رقيقة هبت على وجهها الملتهب, فانحدرت وراحت تركض وتغني "كندر, كندر كندرا". وهي أغنية كردية قديمة يغنيها الأطفال الأكراد الجياع, ومعناها "كوسا, كوسا, كوساية" وأرفت: