كتاب " المجتمع المفتوح وأعداؤه - الجزء الأول " ، تأليف كارل بوبر، اصدار دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع ، نقرأ نبذة عن الكتاب :
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
كتاب " المجتمع المفتوح وأعداؤه - الجزء الأول " ، تأليف كارل بوبر، اصدار دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع ، نقرأ نبذة عن الكتاب :
ولكن هناك أحياناً بواعث إضافية وربما أعمق للتمسّك بالمعتقدات التاريخانية. فالأنبياء الذين يتنبّأون بقدوم عصر ألفي سعيد(3) يوحون بإحساس راسخ بعدم الارتياح، وتعطي أحلامهم، في الواقع، أملاً لبعض الناس الذين يستطيعون التفكير من دونهم. ولكن يتعين علينا أيضاً أن ندرك أن تأثيرهم مسؤول عن حجب القدرة على مواجهة المهام اليومية للحياة الاجتماعية. وأن أولئك الأنبياء المزعومين الذين يتنبأون بأن حوادث معينة، مثل زلة السقوط في الشمولية (أو ربما في «النزعة الإدارية» «managerialism») تُعَدّ، سواء أرادوا ذلك أو لم يريدوا، وسيلة لتحقيق نبوءاتهم. إن ما يزعمونه بأن الديموقراطية لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، ما دامت الديموقراطية وحدها هي التي تزوِّدنا بإطار مؤسساتي يسمح بالإصلاح بدون عنف، وكذلك استخدام العقل في مجال السياسة. بَيْدَ أن هذا الزعيم يميل إلى تثبيط همة أولئك الذين يجابهون الفكر الشمولي، ودافعها إلى ذلك هو دعم الثورة ضد الحضارة. ويبدو أنه يمكن أن نجد باعثاً آخر، لو أننا اعتبرنا أن الميتافيزيقا التاريخانية تميل إلى تحرير الناس من ضغط مسؤولياتهم. ولو علمت أن الأحداث تجري على نحو مترابط، مهما حاولت أن تتفادى ذلك، فإنك سوف تشعر بأنك حرٌّ في أن تكفَّ عن مجابهتها. وقد تكفّ، بصفة خاصة، عن محاولة التحكّم في تلك الأشياء التي يوافق معظم الناس على أنها شرور اجتماعية، كالحرب؛ أو التنويه بأمور أقل أهمية من الحرب، مثل طغيان موظف تافه.
ولست راغباً في الاقتراح الذي يذهب إلى أنه يتعيَّن على التاريخانية أن يكون لها مثل هذا التأثير. وهناك من أصحاب النزعة التاريخانية، وخاصة الماركسيين، مَنْ لا يَوَدّون تحرير الناس من ضغط المسؤوليات التي تقع على كاهلهم. ومن ناحية أخرى، توجد بعض الفلسفات الاجتماعية التي قد تكون أو لا تكون تاريخانية، ولكنها تبَشِّر بعجز العقل في الحياة الاجتماعية، والتي، بهذه النزعة المضادة للعقل، تدعم الموقف الذي يقول: «إما أن تتبع القائد، رجل الدولة العظيم، أو تصبح أنت ذاتك قائداً»؛ وهو الموقف الذي يعني بالنسبة لمعظم الناس خضوعاً سلبياً للقوى، سواء أكانت شخصية أم مُغْفَلَةً، التي تحكم المجتمع.
والآن من المثير للاهتمام أن نرى أن بعض أولئك الذين يشجبون العقل، أو حتى يلومونه على ما يسود مجتمعنا الحالي من شرور، يفعلون ذلك من ناحية، لأنهم يدركون حقيقة أن النبوءة التاريخية تتجاوز قدرة العقل، ولأنهم لا يمكنهم أن يتصوروا من ناحية أخرى علماً اجتماعياً، في مجتمع معقول له وظيفة أخرى سوى النبوءة التاريخية. وبعبارة أخرى، إنهم يخيّبون رجاء ما يدعو إليه التاريخانيون؛ فأولئك يشجبون العقل، على الرغم من إدراكهم عُقْم المذهب التاريخي، غير عارفين أنهم يحتفظون بضرر تاريخاني أساس ألا وهو المذهب الذي يقول بأن العلوم الاجتماعية، إذا كان من الممكن أن يكون لها استخدام على الإطلاق، ينبغي أن تكون ذات نزعة نبوئية. ومن الواضح أنه يتعيَّن أن يؤدّي هذا الموقف إلى رفض قابلية تطبيق العلم أو العقل على مشكلات الحياة الاجتماعية - وبصورة شاملة، إلى نظرية في القوّة تعتمد على الهيمنة والخضوع.
فلماذا تؤيد كل هذه الفسلفات الاجتماعية الثورة على الحضارة؟ وما هو سرّ انتشارها؟ ولماذا تجتذب وتُغري الكثير جداً من المثقفين؟ إنني أميل إلى الاعتقاد أن السبب هو أنها تعطي تعبيراً عن شعور عميق بعدم الرضى عن عالم لا يستمر، ولا يمكن أن يستمر على مستوى المُثُل الخُلُقية، وعلى مستوى أحلامنا بالكمال. إن ميل النزعة التاريخانية (ووجهات النظر المرتبطة بها) لدعم الثورة ضد الحضارة؛ ترجع بقدر كبير إلى أن النزعة التاريخانية ذاتها، إنما هي، إلى حدٍّ كبير، ردّ فعل ضد الضغوط التي تفرضها حضارتنا، وضد ما تفرضه علينا من مسؤولية شخصية.
هذه التمويهات مبهَمَة إلى حدٍّ ما، ولكنها كافية لهذا المدخل. وهي أخيراً سوف تدعمها المادة التاريخية، خصوصاً في الفصل الذي يحمل عنوان «المجتمع المفتوح وأعداؤه». ولقد كان هناك ما يُغريني بأن أضع هذا الفصل في بداية الكتاب، بما فيه من موضوعات هامة تجعل المدخل بالتأكيد أكثر جاذبية. ولكني وجدت أن الوزن كله لهذا التفسير التاريخي لا يمكن إدراكه إذا لم تسبقه المادة العلمية التي تناولتها في مقدمة هذا الكتاب. ويبدو أنه ينبغي على القارئ أن يوزِّع اهتمامه بين التشابه الذي نجده في النظرية الأفلاطونية للعدالة، ونظرية وممارسة الشمولية الحديثة، قبل أن يدرك أن لهذه المسائل أولوية قصوى.
في المجتمع المفتوح (حوالي 430 ق.م).