كتاب " المجتمع المفتوح وأعداؤه - الجزء الأول " ، تأليف كارل بوبر، اصدار دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع ، نقرأ نبذة عن الكتاب :
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
كتاب " المجتمع المفتوح وأعداؤه - الجزء الأول " ، تأليف كارل بوبر، اصدار دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع ، نقرأ نبذة عن الكتاب :
هيراقليطس
إننا لا نجد في اليونان حتى هيراقليطس نظريات يمكن مقارنتها - من حيث سماتها التاريخية – مع عقيدة الشعب المختار. ففي الديانة الهوميرية(6)، أو بالأحرى في التفسير الشِّركي(7) يُعَدُّ التاريخ نتاجاً للإرادة الإلهية. ولكن لا تضع الآلهة الهومرية قوانين عامة لتطور التاريخ. فما يحاول هوميروس أن يشدَّد عليه ويشرحه ليس وحدة التاريخ، وإنما بالأحرى افتقاره إلى الوحدة. إِذْ إن مؤلِّف المسرحية على مسرح التاريخ ليس إلهاً واحداً، وإنما عدة آلهة. وما يشترك فيه التفسير الهوميري مع التفسير اليهودي هو شعور ما غامض معيَّن بالمصير، وكذلك فكرة القوى التي تقف خلف الكواليس. َبيْد أن المصير النهائي طبقاً لهوميروس، ليس بادياً للعيان، وإنما يظل سرّاً على خلاف نظيره اليهودي.
وكان هزيود(8) هو أول يوناني يُدخل مذهباً تاريخياً بشكل أكثر وضوحاً، وربما كان متأثّراً بمصادر شرقية. فهو الذي استخدم فكرة الاتجاه العام أو النزعة العامة في التطور التاريخي. إن تفسيره للتاريخ متشائم، فعو يعتقد أن الجنس البشري، في تطوره ابتداءً من العصر الذهبي، يكون مصيره التدهور جسدياً وخُلقياً معاً. ولقد جاءت ذروة الأفكار التاريخية المختلفة عند فلاسفة الإغريق القدامى مع أفلاطون، الذي، في محاولة منه لتفسير التاريخ والحياة الاجتماعية للقبائل الإغريقية، وبصفة خاصة الأثينيين، رسم صورة فلسفية فخيمة للعالم. وكان متأثّراً بقوّة في مذهبه التاريخي بمختلف الرواد الأوائل، وبصفة خاصة هزيود، ولكن معظم التأثير الهام أتى من هيراقليطس.
كان هيراقليطس هو الفيلسوف الذي اكتشف فكرة التغيّر. وقبل هذا العصر، كان الفلاسفة اليونانيون متأثِّرين بالأفكار الشرقية، وقد تصوَّروا العالم صَرْحاً هائلاً تكون فيه الأشياء المادية بمثابة مواد البناء. إنها شمولية الأشياء - أو ما يُطلَق عليه الكوزموس (وهو يبدو في الأساس نتاجاً شرقياً). وكانت الأسئلة التي سألها الفلاسفة لأنفسهم: «ما هي المادة الخام التي صُنع منها العالم؟ أو «كيف بُني، وما هو تصميمه الأساس الحقيقي؟». ولقد رأوا أن الفلسفة، أو الفيزيقا (ولم يكن ثَمّة تمييز بين الاثنين لزمن طويل)، هي البحث في «الطبيعة»، أعني المادة الأصلية التي منها بُني هذا الصرح: العالم. أمَّا العمليات التي تكون موضوع دراستهم فهي تتم إما داخل هذا الصَّرْح، أو كإضافة إلى بنائه، أو للمحافظة عليه، فهي بذلك تخرج الصَرْح من حالته المستقرة أساساً أو تعيده إلى هذه الحالة. كما أنهم يعتبرون هذه العمليات دورية (بصرف النظر عن العمليات المرتبطة بأصل الصرح، والسؤال «مَنْ الذي صنعه؟» سبق أن ناقشه الشرقيون، وكذلك هزيود وآخرون). وهذا المنحى الطبيعي للغاية، الطبيعي حتى بالنسبة للعديد منّا اليوم، تخطَّته عبقرية هيراقليطس. إذ كانت وجهة النظر التي أدخلها أنه لا يوجد مثل هذا الصَّرح، ولا البناء الثابت المستقر، ولا الكوزموس «فنظام الكون، في أحسن الأحوال، لا يعدو أن يكون مثل كومة نفاية تَبعْثَرت بالصدفة» وهذه واحدة من أقواله. لقد تصوَّر العالم ليس كَصَرْح، وإنما بالأحرى كعملية واحدة هائلة جبارة؛ ليس كمحصِّلة كلّية لجميع الأشياء، وإنما بالأحرى مجموع كل الحوادث، أو التغيّرات، أو الوقائع. «فكل شيء في تغيّر متواصل ولا شيء ثابت»، إنه شعار فلسفته.
ولقد أثّر اكتشاف هيراقليطس في تطور الفلسفة اليونانية لفترة طويلة من الزمن. إذ يمكن أن توصف فلسفات بارمنيدُس، وديموقريطس، وأفلاطون، وأرسطو على نحو مناسب كمحاولات لحلِّ مشكلات تغيّر ذلك العالم الذي اكتشفه هيراقليطس. ولا يمكن أن نغالي في تقدير عظمة هذا الاكتشاف، فلقد وُصِفَ بأنه اكتشاف مروِّع، ويمكن مقارنة تأثيره بتأثير «زلزال، يبدو فيه كل شيء وكأنه يترنّح» ولا يداخلني شكّ في أن هذا الاكتشاف كان نتيجة للتجارب الشخصية المروِّعة التي عانى منها هيراقليطس من جرّاء الاضطرابات الاجتماعية والسياسية في عصره. وكان هيراقليطس أول فيلسوف يتعامل ليس فقط مع «الطبيعة»، وإنما أكثر من ذلك مع المشكلات الأخلاقية والسياسية التي خَبِرَها في عصر الثورة الاجتماعية. وكانت الأرستقراطية القَبَلية اليونانية، في عصره هذا قد بدأت تُذعِن للقوّة الوليدة للديموقراطية.
ولكي نفهم تأثير هذه الثورة، علينا أن نتذكَّر رسوخ وصلابة الحياة الاجتماعية في ظلِّ الأرستقراطية القَبَلية. فلقد كانت الحياة الاجتماعية محكومة بمحرَّمات اجتماعية ودينية، وكان لكلِّ شخص مكانه المحدَّد في البناء الاجتماعي الكلّي، ويشعر كل شخص أن مكانه هذا مناسب، فهو المكان «الطبيعي»، الذي وضع فيه من قبل قوى تحكم العالم، كل شخص «يعرف مكانه».