كتاب أهل الوقت للكاتب المغربي الحبيب الدائم ربي: إنتقام أدبي لظمأ الأحلام المصادرة

يتناوب المكر الفلسفي والقلق الوجودي في نسغ رواية أهل الوقت للكاتب المغربي الحبيب الدائم ربي، وتتضاعف احتمالات الرؤية الفكرية للحدث الأساسي وفق تقنية أثر الفراشة butterfly effect. مع كل اعادة، يضاف تفصيل صغير جديد ضمن نسق الجوهر الواحد، وهو التخبط في مصيدة اهل الوقت والفوضى المدثرة بهم، فيتداول الابطال صيرورة التكهن بالواقع الذي يتوسع مكانيا بفعل الاخلاقيات الاكثر غباء على قول فلوبير في مدام بوفاري.
مركز الأحداث مدينة مهمشة تدعى البنورية، وهو لقب يدللها به عشاقها الموزعون بين السجون والمنافي. مدينة صغيرة قصدها الدخلاء عندما ضاقات بهم السبل في الضواحي، وتفشت بينهم الاوبئة وصودرت اراضيهم. قصدوها طمعا في راحة موقتة، وما ان استقر بهم الامر فيها حتى فوجئوا برعب حقيقي زرعه في أحشائهم أهل الوقت.
في نقطة التقاطع بين شارعين، التقى شاب ثلاثيني وفتاة تدشن فورة انوثتها: سامي وشريفة، رجل وامرأة، غريبان، لكل منهما عاصمته وجيوشه ودواليب حكمه، واسراره الامينة؛ شخصان يتفاوضان في الشارع، والشارع في البنورية مجرد قناع لا بد من تمزيقه لبلوغ حقيقة الواقع الرهيب. منذ البداية جردته شريفة من اسمه، ودفعته لأن يرتب اوراقه في حضرتها ويبسط امامها بإحكام بقايا صور قابلة للترميم. فكانت مناورة الذكر والانثى المتجددة أبدا؛ هو يجرها لتكون ارادته المتحققة وكيمياؤه المتحولة، ليفاجأ بأنه غدا اسير دائرتها. يأمرها فتلبي، لكنه طوع بنانها يظل. معهما تتجذر الرواية في أصول الدافع الجنسي الذي ينهش بنية الإنسان العربي، فيجرده من اتزانه ويحوله إلى متخصص في معارج المتعة؛ يلتمس في إسراف الجنس انتقاما من أهل الوقت، وإخفاء تعيسا لظمأ الأحلام المصادرة. مما يقود الكاتب إلى القول بأن الرسم والشعر وكل الفنون خيانات، وصمامات امان لاستمرار اغتصاب الارض ونهب الاحياء والاموات. أي أن البنورية عبور في شكل اقامة، وخيانة باسم الامان!
كل حكاية من سلسلة القصص، تحوي جنسا ورعبا، صخبا وعنفا، غيرة وكراهية. الحكاية لعبة قاتلة وقذرة طالما هي ملوثة بظلمات أهل الوقت وطغيانهم المتلون بأسباب القهر والجشع. أركان اللعبة الروائية الثلاثة: حافظ، سامي وشريفة، سادرون في تسقط خبايا الأمنيات التي تنمو في الظل، وتوظيفها في ارهاب الكتابة، لزعزعة طمأنينة القارئ ودفعه للتوجس من خفايا الأمور. في متن الحكاية تدنس الأسطورة الممثلة بالرمز زين العابدين بخسة من قبل الدخيل الحاج محمود وأزلامه، ويجرد المرابع البسيط هاشم والد سامي من أرضه، وتُذَل زوجته سليمة ابنة زين العابدين. وتُطرَد أم سليمة كي تمحى ذاكرة القرية، وينكسر المحارب القديم هاشم في مواجهة أليمة، فيموت فيه الجندي القديم الذي دافع حتى آخر رمق عن الحمى الفرنسي ويعجز عن الدفاع عن ارضه هو. يدخل والد حافظ في المتاهة نفسها حين يجعله سامي شيخا يفني ايامه وراء اغنام لا يملك بعرها. مع تشظي واقع المدرّسَين حافظ وسامي، تتلون الحكاية بالابتذال بصفته من سمات الحياة في ظل أهل الوقت. تغدو القيمة الإنسانية من رواسب الماضي حين تدفع الشقيقات نحو دنيا المواخير لإبراز عفونة أهل الوقت، مما يوحي بأن الحل الواقعي حل انهزامي! هذا السرد التداخلي بين الواقع والممكن، بين الحياة والمتخيل، يلصق بالرواية الطابع السوريالي. وخصوصاً حين يصف الكاتب اهل الوقت بالمصطلح الحربي الصرف، الذي يجعل تمييز الحمل عن الذئب خاصية الرؤية فقط.
تخلّف قراءة الرواية طعم المرارة، وتمنحنا انطباع المراهنة على الاحتمالات التي تنتهي دوما بالآفاق المسدودة، مما يضفي عليها طابع التحدي والاستفزاز. لكن متعة الجدل الذي يمزج السحر الفلسفي برقة العبارة، يجعلها رواية مدهشة جديدة بكل المقاييس.