أنت هنا
قراءة منى الشافعي تؤكد جنون القارئ الواعي في ليلة الجنون
ليس من البساطة بمكان، البدء في سرد مذكرات شخص ما حتى وان كان كاتبا سواء كان قاصا أم شاعرا، اذ ان المذكرات تشترط تأريخا كتابيا معينا يحوي العديد مما لم يذكره الاخرون لانهم لم يمارسوه.
والممارسة هنا يجب الا تكون عادية، حتى لو مورست بل انها يجب ان تضطرنا إلى رفع حواجبنا استغرابا، وهكذا تأريخ يحتاج إلى عمر مزاولة طويل يمنح صاحبه عمرا اطول، يستطيع فيه تجميع ما مر به من أحداث، فالمذكرات يجب الا تعتمد على حدث واحد او احداث عدة تحمل لونا واحدا.
المذكرات يجب ان تختلف في احداثها ولحظاتها وايامها، من اجل ان تمنح صفة مذكرات.
في الصفحة الخامسة بالتمهيد لرواية قوة الأشياء ليسيمون دي بوفوار استعرضت بعض الاعتراضات في الخارج ومنها من كتب او قيل لها: ان ذلك العمل مبكر اكثر مما ينبغي، فليس من ورائك مؤلفات بقدر كاف، او انتظري حتى تتمكني من ان تقولي كل شيء، فان الفجوات، والسكوت عن اشياء يمسخ الحقيقية، وايضا انك تفتقرين إلى التقهقر الزمني، او انك اخيرا تنكشفين اكثر في روايتك.
ولكن منى الشافعي بعد قراءتنا لروايتها الجديدة ليلة الجنون حاولت ان تحقق ما ارادته دي بوفوار من روايتها هذه فقد ذكرت: كان ينبغي في تلك الفترة التي سأتحدث عنها، ان احقق ذاتي، لا ان اكونها.
وقد استطاع الاثنان دي بوفوار والشافعي ان يحققا ذاتيهما. اذ ان تحقيق الذات عملية صعبة جدا، لا يمكن الوصول اليها الا بصبر وتضحية وذاكرة قوية.
عاشقها الأول
كان حبها الاول يحمل اسم خالد او الاصح كانت هي تمثل حب خالد الاول. جربته فوجدته بعيدا عن الماهية التي تبحث عنها، ففضلت الابتعاد عنه لاطول مدة ممكنة حتى اتعود فراقه ويتعود هو على حياته الجديدة ومتى احقق طموحي ورغبة أمي التي دائما تردد: امنيتي يا ابنتي ان تدرسي في الجامعة، التي تخرج فيها والدك رحمه الله.
عن حبها الأول تقول:حينما اشتد عليّ التفكير وتكومت التساؤلات امامي، كيف ستنتهي تلك الليلة معه، وانا التي رفضته مرتين وكيف سأقنع امي برفض محام بارع وشاب وسيم والأهم ابن عمتها الغنية والوحيدة.
انها ما فكرت بان هذا المحامي سيكون الوريث الوحيد، ولكن القلب لم ينبض له، وربما لم تجد سارة من يمنحها نبضة الحب المنتظرة، ولكن هذا الافتقار للحب لا يشجعها على تجربة ثانية بعد التجربة الاولى الفاشلة، والتي عملت حبا بالوالدة، وانتهت بعد فترة قصيرة.
لذلك فقد وجدت السفر إلى الخارج للدراسة يمثل هروبا شرعيا من هذا الحبيب الثقيل، وقد استمر الفراق اربع سنوات كان فيها قد تزوج بالتأكيد، لانه غير صبور ولم يحمل الحب الحقيقي.
لبست الرواية لباس التذكر، لان حوارها دار بين سارة وسارة، في المكان الذي يكون عادة في دولة غربية اخرى من هنا جاءت زيادة الحاسة السادسة ضرورية جدا، رغم انها لم ترتبط بحدث او زمن معين او اي ارتباط تأريخي... والمتلقي بهذه الرواية قد يسميه صوت العقل الباطن، او صوت الذات او المحذر او المذكر، لكنه كان رائعا لانه انسل إلى مساحة الغربة الواسعة ليشغل جغرافية ذهنية كبيرة.
أخبرتني والدتي... سارة حبيبتي، عندما كنت في غرفة الولادة في المستشفى وبدأت علامات الولادة تزداد وتظهر على جسدي حقنني طبيب الولادة بحقنة تخدير خفيفة، حتى يخفف آلام الطلق الحاد، فكنت اطلق وكأنني بين الصحو والنعاس، وعند طلقتي الاخيرة، خيل اليّ انني رأيت شعاعا من نور، متعدد الالوان، اخترق زجاج النافذة بقوة غريبة واتجه نحوك لحظة خروجك من رحمي، اعتقد ان ذلك الشعاع هو الذي جعلك تصرخين صرختك الاولى وعند طلقتي الاخيرة احسست اني رأيت شعاعا من نور متعدد الألوان.
قاطعتها سارة: لكن يا امي شعاع الشمس الصباحي لا يخترق الزجاج بالقوة التي تؤكدينها، ولا يخترق الاجساد او يدخلها بالسهولة التي تؤكدينها، ولا يخترق الاجساد او يدخلها بالسهولة التي تتحديثن عنها... لم نسمع بهذا، ولا حتى بالاساطير.
الاتكاء على الذات الحاضرة
حاولت ان تلعب دور سارة المتحركة القادرة على الابداع والاتيان بالجديد بعد تصفح اوراقها والنظر في الاوراق التي لم يقرأها الاخرون بعد، وعكفت على الفلسفات الاغريقية القديمة ثم الحديثة، والتعريج على هذا اللون الثقافي، يؤكد ان سارة كانت وما زالت تبحث عن الجديد من اجل توسعة اطارها الذهني ثم بدأت تحدث ذاتها عن الفلاسفة الذين تعشقهم متذكرة حكايات عن فيثاغورس وفولتير الذي اكد بان الحب انتصار الخيال على الذكاء، ان نهاية الحياة كئيبة ومنتصفها لا يساوي شيئا، وبدايتها مضحكة وذكرت سارتر واخرين.
ان ذكر هؤلاء من شأنه ان يعطي لونا مشجعا للقراءة، لان النتاج الادبي عندما يضم اكثر من لون يكون مشجعا على المتابعة، وقد ضمت الرواية مقطعا من قصيدة لبدر شاكر السياب واكثر من مقطع للشاعرة سعدية مفرح، ولكن الملاحظة التي لابد من ذكرها بالنسبة للشعر هو انه كان بالامكان اعطاء ما تمت كتابته للشاعرة سعدية والطلب منها كتابة مقاطع تدور بالحدث ذاته، كي لا تأتي مقاطعها بعيدة عن الحدث بسبب التفاوت التأريخي، رغم ان مضامين المقاطع كانت متقاربة مع الرواية، اعتمادا على اختيار الكاتبة.
الخاتمة
رواية منى الشافعي الاولى تبشر بالخير وتشجعنا على ان ننتظر الجزء الثاني لها.
فقد ذكرت في الصفحة الأخيرة: هل انتهت رواية سارة أم بدأت؟.
سؤال مستحيل... لكن من قال ان الاسئلة المستحيلة ستظل بلا اجابات إلى الابد؟!
العمل الاولي يمثل امرأة حاملا تنتظر الولادة، ولكنها لا تدري متى، وها نحن سننتظر الجديد من الشافعي في المستقبل القريب.