أنت هنا
قراءة عن بائع الحكايات لـ ستانيسواف ستراسبورغر
لغة الحكايات والحكواتي لا تزال تغوي بقوة في الكتابة وفي القراءة، ليس في الشرق فحسب بل في البلدان الغربية أيضاً، اذ بات للحكواتي رواده من الكتّاب، وجمهوره، ربما لأن الحكايات (الحكايا) تنقذ الواقع من الرتابة والروتين الكلامي في زمن تكثر الأجناس الأدبية الغامضة والصعبة، والحكايات الشهرزادية السردية غيرها. ليست علامة من علامات الحنين على ما يتوهم البعض، بل هي جزء أساسي من فن الرواية الحديثة والمعاصرة والشعبية والاكزوتيكية، وفي بعض المرات تكون مجرد ماركيتينغ خادع، تسويقي واستشراقي وتافه.
الحكاية هي ما يُحْكى ويُقَصّ، وَقَعَ أو تُخُيِّلَ، والحكواتي أو الراوي أو القصّاص أو القاصّ على ما نعلم، عادة شعبية تقليدية، وهو شخص امتهن سرد القصص، في المنازل والمحال والمقاهي والطرق والليالي والأماسي، كان يحتشد حوله العشاق قديماً، فلا يكتفي بسرد أحداث القصة (عنترة او الزير سالم) بتفاعل دائم مع جمهوره، بل تدفعه الحماسة لأن يجسد دور الشخصية التي يحكي عنها بالحركة والصوت والأداء.
والحال أن الكاتب والأديب البولوني ستانيسواف سترابورغر الذي كان ينشر تحت اسم يان سوبارت، وتنشر كتاباته في لغات عديدة ومنها العربية، اختار ان يكون عنوان كتابه "بائع الحكايات" المترجم حديثاً عن منشورات "الآداب" بتوقيع جورج سفر يعقوب، ومن خلال عنوان الكتاب ومضمونه نعرف المغزى من الكتاب وتأليفه، ومعنى اغواء الحكايات والحكواتي في الغرب أو أوروبا الشرقية. أن يترجم الكتاب إلى العربية فهذا يعني أن "بضاعتنا ردّت الينا". فالمؤلف يعيش في كولونيا الألمانية ويتنقل بين بيروت ومسقط رأسه فرصوفيا ويعمل في التبادل الثقافي والاجتماعي ووقّع كتابه في أكثر من عاصمة عربية ورحب بترجمة كتاب "الحكواتي" لربيع علم الدين الى البولونية.
تتحدث رواية ستانيسواف سترابورغر عن يان، مهندس غربي أوروبي بولوني يذهب إلى سوريا ضمن فريق تقني للتنقيب عن الغاز في صحراء دير الزور في شرق سوريا. لكنه يقع في غرام هذا البلد وينسحر به من زيارته الأولى. فيترك عمله في مجال التنقيب عن الغاز ويبقى في سوريا. وقد ساعده على ذلك أيضا أنه يمتلك المال. وبما أنه يهوى الثقافة والمجتمع فقد أصبح حكواتياً، يبدأ بالغوص في هذا العالم الغريب الفتَّان، فيحوك قصة حب خصبة الخيال ويدوّن ذكريات رحلته، ويتحول أحيانا إلى صحافي معاصر يكتب ريبورتاجات، فلا يعرف القارئ كيف ومتى تتجاوز حكاياته حدود الواقعية. فبائع الحكايات "يدير لعبة مشذّبة"، بحسب تعريف الرواية. يروي ما يحدث له من قصص وحكايات. إنه حكواتي يحكي بطريقة السرد الأدبي "ما بعد الحداثي". ويلتقي بأناس عديدين، منهم فتاتان: إحداهما فلسطينية لبنانية تعيش في الأردن، والأخرى من أريتريا وتدرس في دمشق. لا يعرف تماماً إن كان قد وقع في غرام واحدة منهما. كما أنه لا يعرف ما الذي تريدان منه بالضبط. فحين تلتقي الثقافات تكون هناك صعوبة في التعبير والتفاهم. لكن الأمر هنا يتعلق بأن لغة الحب والصداقة راسخة في كل ثقافة.
شخصيات "بائع الحكايات" مستعارة من أصول أدبية: فالجميلة السوداء هي المرأة التي ينشدها الملك سليمان في "نشيد الأناشيد". ويحكي الحكواتي عشقه لـ"الجميلة السوداء"، مقتبساً من أسطورة شمشون وأشعار المعرّي وعنترة ونزار قبّاني وآخرين. أما يوميات الرواية فيجري قطعها بسرديات تراثية وأشعار عربية حديثة، فتبدو حقلاً لغواية القارئ الغربي، وقد يجدها القارئ العربي عادية ونافلة. الراجح، ان الكاتب يستثمر ما يسمى "سحر الشرق" وثقافته بهدف سحر الكتابة والقراءة، وهو بذلك يشبه بعض الكتاب العرب الذين يكتبون بلغات اجنبية فيختارون الحكايات والأساطير ويقدمونها للقارئ الغربي، ونقصد في هذا المجال رفيق شامي باللغة الألمانية، وربيع علم الدين بالانكليزية، وأمين معلوف والطاهر بن جلون بالفرنسية. ذلك هو اغواء السرد الشهرزادي في "ألف ليلة وليلة"، وهناك فصل كامل في "بائع الحكايات" مكتوب على شكل مشاهد حوارية واقتباسات عربية وأجنبية عديدة، فنقرأ سطوراً لنزار قباني وذاكرة "قمر وخبز وحشيش" وأمبرتو إيكو وأبي نواس، وآيات من القرآن حيث يفتتح الكتاب بآية "اهدنا الصراط المستقيم". ما يلفته أنه كان يسمع القرآن في التاكسي، على عكس أوروبا التي يغيب سماع الانجيل عن امكنتها العامة، ويختلط وقع الحكايات الشرقية والعربية والدمشقية مع ضجيج الباعة في الأسواق القديمة، وأصوات المؤذنين في المساجد. اذ تروي الرواية حكايات عن أجزاء البازار وسوق الأطعمة والأقمشة وسوق الأدوات المنزلية وسوق الزينة، وفي أماكن أخرى توجد العطورات والألبسة والحرفيات الدينية والخردوات.
الرواية مقسمة فصولاً، وفيها لعبة أدبية، يتساءل فيها الحكواتي وأيضا نصوص الأدب العربي حول ما هو خيال وما هو حقيقة. في قمة هذه اللعبة الأدبية يلتقي شاعران كبيران هما دانتي بنصوص كتابه "الكوميديا الإلهية" وأيضا الشاعر أبو العلاء المعري بنصوص كتابه "رسالة الغفران". ويتنافسان في حضور جمهور ولجنة تحكيم كما في برامج الـ"توك شو" التلفزيونية. كل منهما يحاول إثبات أنه يستطيع الحديث أفضل من الآخر عن الجنة. إنها مبارزة بالكلمات بين الشاعرين حول الفردوس وجرت مقارنات كثيرة بينهما. وذهب بعض الدارسين إلى القول بأن المعري في رسالة الغفران مفكِّر، وخيالُه واقع تحت سلطان التفكير الحر، بينما كان خيال دانتي ذاتياً، وصوفياً مدرسياً. وأن دانتي لا ينتمي إلى عالم الفكر، بل إلى عالم التصوف المدرسي الذي فرضته عليه بيئة القرون الوسطى.
اللافت أن ستانيسواف ستراسبورغر يعود إلى الحكواتي كوسيلة لسرد الحكاية في وقت يتخلى عنه الكتاب أو الروائييين العرب، مصرّاً على أنّ عمله لم ينطلق من رؤية استشراقيّة، بل من نزعة ما بعد حداثيّة في الأدب تجمع بين الأجناس والاقتباسات، وتحوّر أهداف الشخصيات وحقائقها.