كتاب "وكان ابنه الثمن"، ليس الحلقة الأولى في مسلسل كتاباتي، قد تكون الأخيرة، لأن يد الزمن ثقيلة وهي تدق على باب العمر، وهمسة التعارف هذه، ليست بطاقة شخصيّة، فتاريخ الولادة، ومكان السكن، ورقم الهاتف، والفاكس، والحالة الشخصية، وعدد الأولاد، ولون الشعر، أو الع
أنت هنا
قراءة كتاب وكان ابنه الثمن
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
أياد ملطخة
كان ذلك مساء أحد أيام كانون الثاني، أول العقد الأول من القرن الأول من الألفية الثالثة، وكان جو الغرفة دافئا بفعل النار المتقدة التي تزيد حرارتها عن مقاسات الغرفة الصغيرة، ورغم البرد القارس الذي يهاجم الناس في الخارج، ويتربص بمن يلوذون داخل بيوتهم بدفء نيرانهم، كانت أصوات قطرات مياه المطر، المنهمر من أبواب السماء المفتوحة على مصراعيها، تطرق على السطح وعلى الجدران الخارجية، فتصل إلى أُذُني، وتمزق الهدوء الذي يسود جو الغرفة الصغيرة، والدفء المنبعث في أوصالي والهدوء في أعصابي، أنا بطبعي أحب الهدوء الممزوج بالدفء وأتضايق من أي تمزيق له، حتى لو كان بفعل حبة برد بلورية بيضاء آتية من الفوق اللامحدود، ورغم التجاوب المعلن لجسمي مع هذا الهدوء والبرد والمطر وضجيجه، جاء أمين الصغير، بحركاته الرشيقة وجسمه المرن كالخيزران وبحركاته الرياضية العجيبة والكبيرة بالنسبة لجسمه ولسنِّه، جلس بجانبي فضممته إلى صدري وقبلت أطراف شعر رأسه واحتظنته بشدة أبثه دفء المشاعر، فاستكان كما تستكين صغار العصافير إلى أجسام أمهاتها حين تنطوي تحت أجنحتها.
قلبت محطة التلفزيون، هربا من الأخبار التي تبعث الكآبة، أبحث عن محطة تبث برامج للأطفال، وكان «توم وجيري» فتهللت أسارير وجه أمين، وضحك ضحكة كلها احساس بالسعادة، بقدر ما فيها من براءة، اعتدل في جلسته متحديا البرد وقال «بدي هذا»، وأصغى اصغاء كاملا لصوت البرنامج وصوره وأدار لي ظهره كأنني لم أحضنه أو أقبله، تخيلت عينيه الباسمتين وهما تتبعان توم وجيري على الشاشة الصغيرة، وأحسست بجسمه يتململ بحركات تجاري الحركة على الشاشة الصغيرة، وبنبضات دمه تضج في عروقه، وذبذبة عضلاته تسابق الحركات البهلوانية، فأخذت أعايشه وأتمنى لو أغوص في بحر أفكاره، لأدرك ما يدور في رأسه، وأحاول استكشاف سيناريوهات مستقبله المجهول، لمعرفة ما ينتظره. وفجأة انتفض وكشف عن طفولته وحيويته الصاخبة وحركاته السريعة، وتذكر أنني بجانبه، فاستدار نحوي يقطع حبل أفكاري الثقيلة بصوته الناعم الذي انساب في أذني انسياب النسمة الرقيقة في ليالي الصيف الصافية، أنعشني صوته وأحسست بالراحة والانفراج في عتمة هذا الزمن، ليقول لي «بدي أغيرها» يقصد تغيير المحطة، استجبت لطلبه وأخذت أقلب صفحات المحطات على الشاشة الصغيرة، حتى طالعتني صورة فتاة لا يتجاوز عمرها الأثنتي عشرة سنة، تتهادى بسذاجة ظبية حين ترفع عنقها، كأنها ترى الدنيا عشبا أخضر وماء صافيا، تمسك بيدها خيطا مربوطا بطيارة ورقية من أربعة ألوان، الأخضر والأحمر والأبيض والأسود، تنتقل من مكان لآخر بهدوء أحيانا، وبسرعة أحيانا أخرى، تكاد تطير من الفرح مع طيارتها، فأحسست أن أمين الصغير يكاد يطير من الفرح لفرحها، ويعيش معها ومع طيارتها، يميل إذا مالت، ويتحرك إذا تحركت، ويركض في فراغ الغرفة الصغيرة إن هي ركضت، وظل هكذا إلى أن ظهرت فجأة طائرة كبيرة وسريعة، وانقضت على الفتاة الصغيرة وقصفتها كما تقصف الدبابات أو القلاع الحصينة بصاروخ، لمع كالبرق، ودوى كالرعد، فأطار الحجارة من أماكنها وأثار غبارا كثيفا حجب الرؤية... وعندما ابتعدت الطائرة ولحق بها صوتها وأخذ كل شيء يهدأ، فتش أمين عن الفتاة بعينيه وبكل تعابير جسمه، ولما لم يجدها، سألني عنها بصوت مبحوح وحنجرة مغلظة وصدر يعلو ويهبط فأجبته «قتلتها الطائرة الكبيرة».
ترقرقت الدموع في عينيه، وضغط على الضابط بعصبية الكبار، وبغضب المقهورين، كأنه يريد تحطيمه.
وهدأ كل شيء، التلفزيون وأنا وأمين الصغير، وببراءة الأطفال وبتلقائية رمى نفسه في حضني وانكمش، ولم يعد يطالبني بشيء، كأنما سدت نفسه عن المرح، وازداد التصاقا بي، كأنه يريد أن يحتمي أو يهرب من أي صوت، حتى لو كان صوت غسالة، ولم يعد ينطق بحرف، كأن لسانه انعقد وجسمه تجمد، فأخذته إلى صدري واحتضنته وقبلته، فاستكان في حضني، استكانة الطيور عند المبيت، وسرعان ما غاص بنوم عميق.
بعد أيام، كوفئ الطيار على «بطولته»، وبعد سنتين عيِّن قائدا عاما للجيش، وعندما سرح عيِّن وزيرا للعدل، وصار يتكلم كثيرا عن الأيدي الملطخة بالدم.