رواية "فراسخ لآهات تنتظر"، ينحو العراقي زيد الشهيد في روايته هذه باتجاه عرض الحال الاجتماعي في زمن الحصار الذي فرض على العراق من خلال الدخول إلى حياة ثلاثة من المنتجين المبدعين ( شاعر ، ورسام ، وناقد ) كانوا يوماً ما مفعمين بطموح تغيير خارطة الوطن ،رغبةً في
أنت هنا
قراءة كتاب فراسخ لآهات تنتظر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 5
أتطلَّعُ في شعابِ وجوه الراكبين فتتمثّل مرايا استبدلت غيوم البَهَت وضبابيّة الفراغ بتباشير ألقٍ يتجمّع كما سحابة بيضاء·· وجوه تعرض بتفاصيل براءة مزَّقت قميصَ جذلها مخالبُ التجنّي؛ وطمست مسوح شفّافيّتها ركلاتُ المتخلّفين··· يكبر حجمُ المرأة الجالسة جوار زوجها العجوز في المقعدين المحاذيين لي بعد أنْ كانت منكمشة شأنها شأنُ جميع الركاب طيلة الطريق الصحراوي الذي قطعناه من بغداد حتى طريبيل، ومضغوطة بعباءتها كما لو كانت ستتلاشى ذوباناً عند حين·
تستخرج كيساً قماشيّاً، ثم تنهض لتوزّع فحواه:
- خذوا من أُختكم أم محمد، حلوى عملْتها لسلامة الوصول·
تتهللُّ القسمات تُكبر فيها شجاعتها بصمتٍ يحاول امتلاك صولجان الحرية المغتالة· تمتد الأكف لا لتتسلّم حلوى بل لتتقبّل تمائم أمٍّ سكبت خضائل روحها آيات صادقة على ورق أُمنيةِ جعل الحياة آمنة سارّة، وخلق أبناء يحيون على رَفَل الاستقرار بعيداً عن أنفاس شقاء تأتي به صدور المسخ وتنفثها فيروساتهِ لاغتيال هناءات القلوب·
تلتهم الأفواهُ أصابعَ الحلوى بشهيةٍ لا يمكن وصفها (لعلّها الشهية السارية بإحساس مشترك أساسه المكايدة الدفينة لسارق الحلم، والتعبير الرمزي لأبجديّة الاستهانة بظنون الموهوم بالاستحواذ، المغرور بالهيمنة·· ولم تكن أم محمد إلاّ امرأة جنوبية لمّا تزل بعضُ ملامح بساطة الجنوبيين باقية بهيئة أوشام خضر أحدها نقطة مستديرة كأنها قطرة خِصب تربط وتري الحاجبين؛ وأخرى في الحافّة المدبّبة للأنف الصغير بينما تتعامد تحت الشفّة السفلى الجافلة بفعل تهالك الأعوام تيجانٌ دقيقة تستقر في قعر الحنك ثم ينحدر بعضها هابطاً مع انزلاق الرقبة ليضيع خلف سواد الثوب··· تطلق ضحكةً بمنتهى الانشراح· تطلقها وسيعةً جذلى كأنها تُعلن نصراً على عدوٍّ مكايد وأبالسة موتورين· لا تأبه للزوج الذي راح يتمتم في أُذنها بمفردات تحجيم تصرفها؛ بل انطلقت:
- دعني يا رجل· كلّهم أولادي·
وبشيءٍ من السخرية تفوه ناشرة نظراتِها حييّةً على العيون المبتهجة لشجاعتها:
- حتّى وأنتَ خارجَ القفص ترتعش خائفاً، وتتلوّى متشكّكاً؟!·· آه· أرعبونا أولاد الحرام·
يبتسم الشاب الذي يشاركني الجلوس بعدما عدّلَ نظّارتيه الداكنتين وشرع يرمقها· ألمح تألقَ عينيه من وراء الزجاج· أُشاركه الابتسام، فيهمس:
- يا للمسكينة· الآن سمعنا صوتَها··


