"في ذكرى الغبار وشانيل" للقاص المحامي صادق عبدالحق صادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وهي مجموعة قصص تؤرّخ كما يقول، لنصف قرن وأكثر من السنوات مضت بين الوعي في العام 1946 والركود في العام 1996، ثم التوقف، متمنيا أن تكون المجموعة شهادة صادقة على الزما
أنت هنا
قراءة كتاب في ذكرى الغبار و ((شانيل))
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 5
من بعيد في عتمة الداخل لاح خيال حسّان يعبر إلى المطبخ متجنبًا بالطبع اضطراره لإلقاء تحية الصباح على والده ومتجنبًا المواجهة·
ثم جاءت رفعة - يا للغرابة - التي نادرًا ما تجيء إليه من عالم غرفتها ودراستها ومشاويرها وشؤونها؛ على أن الغرابة سرعان ما تـبـددت حـين بـادرتـه بالسـؤال: إن كان سـيحتاج السيارة اليوم؟ وكأنها لم تشطب أمس كامل يومه وعمله ومواعيده عندما خرجت هي والأم بالسيارة طيلة النهار ولم تعودا قبل نشرة أخبار الثامنة مساءً؛ دمدم محتجًا وفي أعماقه سخطٌ: أن هذا غير معقول وأن ليس بوسعه أن يقدم برنامجًا يوميًا عن متى سيحتاج السيارة ومتى لا يحتاجها، وأن هذا كثير، وأنهم في الحقيقة لا يأبهون بغير حاجاتهم ومواعيدهم وشؤونهم، أما هو وعمله فلا يهمهم بشيء ويؤكد أنه لو ترك لهــم السيارة وفوضهــم بقبض دخله ما فطنوا إلى الحاجة إليه
أحس بأن هذا الجو الملبد لا يناسب يوم عطلة للراحة أبدًا والجو لا يسمح أن يقترح على زوجته قضاء العطلة خارج البيت، أما أن يذهب وحده فليس أمرًا صحيحًا ولا مفيدًا لعملية السلام البيتي وهل ينتظر أن تهطل حلول سحرية خلال النهار فيعم الأمن والسلام بدل هذا التوجس والتنافر··· كأن تبادر مثلاً زوجته أو ابنته رفعة باجتراح إفطار شهي في الحديقة ثم تتقدم منه - كما كان يفعل هو مع والده في غابر الأزمان - تتقدم معتذرةً عن تعطيل أموره وعن قلة الأدب في مخاطبته وعن الطلبات التي لا تنتهي وعن عدم وجود قميص واحد مكوي وجاهز في أي يوم من الأيام وعن فوضى الصرف على آلاف الأحذية التي تتكسر نصالها على نصالها هباءً منثورًا· الخ···
ولأن ذلك مستحيل، وكحل مؤقت وبسيط خرج الآن لاحضار الجريدة الصباحية وعاد·
بعد قراءة الجريدة أدرك على وجه اليقين أن هناك اصطدامًا محتمًا سيقع مع حسان بشأن خروجه بالسيارة في منتصف الليلة الماضية وبدون رخصة قيادة ضاربًا بعرض الحائط كل تحذيراته وتهديداته وأيمانه، وبشأن رائحة الدخان التي تعشش في قماش الأغطية من حوله والتي لكثرتها لم تتبدد بعد، رغم انقضاء الليل بكامله، وأدرك أن الود مفقود حتى مع سمير وأنه لا يقبل بكسل عوني وروان وتلهيهما بكل شيء ما عدا تحضير واجباتهما المدرسية والاستعداد للامتحان الوشيك، وأدهى ما هناك هو تربص (رفعة) بالسيارة وتربص أمها وتربص (حسان) الأمر الذي يجعله في الواقع غير قادر على ممارسة أي حرية بسيارته طيلة النهار بل هو سيكون مهددًا في كل لحظة بأن يتلفت حوله فلا يراها أو هو سيطلق الاحتجاجات فيلقى صدودًا فوق صدود وفي النهاية ربما تشكلت السخرية الصامتة الواضحة من هذا الأب المتذمر·
فكّر: ماذا لو ذهب إلى بيت والدته وأمضى النهار كله؟ ولكن ماذا يعني ذهابه وحده بدون الأولاد؟ والأولاد لا يبادرون (بل ولا يرغبون) بالذهاب معه بغير أمهم··· ثم ماذا يفعل طيلة النهار بمواجهة الوالدة؟ إن ساعة معها عادة تكفي لإطفاء أشواق (أو واجبات) أسبوع كامل، ثم··· لقد أعلنت رفعة وانتهى الأمر بأنها ستحتاج السيارة بعد الظهر؛ فكيف سيبرر غيابه عن البيت (ويحتفظ بالحد الأدنى من الذوق السليم والديمقراطية وعملية السلام البيتي على رأي ولسان حال رفعة وأمها والجميع) رغم هذا الإخطار المسبق المعلن؟ أم تراه يذهب للمزرعة وحده؟ وهي أيضًا بعيدة وموحشة الآن وتحتاج لنهار كامل ومشروع معد سابقًا··· ثم··· ها هي الساعة تقترب من الحادية عشرة دون أن تبدر أي بادرة ما على أن هناك إفطارًا··· وهو في الحقيقة جائع ويكاد يتفجر غيظًا أنه ما لم يقم بنفسه بمبادرة للإفطار فإنه - لا سيما عندما يكون الجو ملبدًا كما هو اليوم - لا أحد يقوم بهذه المبادرة، لا الزوجة فذلك يا للعجب ليس من أولوياتها (اللهم إلا عندما كانت هناك خادمة فكانت تشارك في الاحتفال المراسمي للإفطار) ولا رفعة بالطبع لأنها فيما يبدو لا تعتبر نفسها - وعلى رأي أمها - إلا ضيفة (بانتظار العريس) ولا حسان بالطبع ما لم يتعلق الأمر باستعمال السيارة والإتيان بحركات للفطور من الخارج (وتحديدًا إحضار الحمص والفول من المطعم) ولا بقية الأولاد بالطبع· وأن يقوم هو دائمًا بالمبادرة للوصول إلى عملية إفطار منضبطة وسارّة فضلاً عن أنها كانت ولا تزال عادة سيئة أو تعويدًا منه لزوجته وأولاده، وبرغم أنها وعلى كل حال صارت عادة منذ ما لا يذكر إلا أن اعتبار ذلك قدرًا بهذا الوضوح أمرٌ لا يحتمل وها هي الساعة تصل الحادية عشرة وغيظه المعوي لا يطاق·
فليذهب ببساطة إلى مكتبه: يقرأ الجرائد الأخرى، يطلب إفطارًا··· يتصل بـ مهرة فلعلها تأتي ويتحدثان أو يذهبان في مشوار، إنها ترسل البنتين اليوم إلى أبيهما وتظل وحيدة بعد العاشرة أو لعله هو يذهب إليها··· وبصرف النظر عن احتمالات حدوث نتائج إيجابية أو الاقتصار على قبلات ثقافية فإن مهرة خيار ممتاز·