رواية "صخرة هيلدا" الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتي سبق وان اصدرت للكاتبة هدية حسين عدد من الروايات والمجاميع القصصية؛ صخرة هيلدا تتطرق فيها الكاتبة لموضوع جديد وغريب على الرواية العراقية بشكل خاص والعربية بشكل عام تحاول فيه توثيقه باسلوب اد
أنت هنا
قراءة كتاب صخرة هيلدا
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
في مكان ما، على حافة العالم، أجلس أو أمشي، أشعر بنوع من الاستقرار لم أشعر به في بلدي، أخرج حكاياتي المثلومة التي تسكن رأسي وتترسب امتداداتها في قاع روحي، سوف أتخلص منها تباعاً، لا أرتب الحكايات من الألف إلى الياء، لقد اختلط زمنها وضاعت بعض ملامحها، قد أبدأ من الياء وأمر بحروف الحكايات من دون ترتيب زمني، وقد لا أعود إلى الألف لأنه سيكون قد تشوّه بفعل تراكم المحتويات وثقلها، لقد تلاعب بي الزمن من دون رحمة فلماذا أجهد لكي أرتبه؟ سأترك ذاكرتي المشوشة تشوهه مثلما فعل بي لسنوات طويلة أكلت نصف عمري، وعليّ إذا أردت أن أتخلص من الماضي وأعيش الباقي من عمري أن أتخلى عن تبعاته·
العالم من حولي يهيء نفسه لأعياد الميلاد، وأنا أهيء نفسي لسرد الحكايات، أعرف أن الأمر يحتاج إلى وقت طويل كيما أزيل الأشنات العالقة التي تعكّر صفو الكلام؛ إذ كيف أتخلص ببضعة أيام أو أيام معدودة من ذاك الإرث الثقيل الذي رافقني أكثر مما يحتمله صبر السنين الذي أكل روحي؟
أمشي بخطى غريبة متوقعة حدوث شيء لا أعرفه، ظلي يسير خلفي كلص يحاول أن يجد فرصة لكي ينقض عليّ، متوهماً أنني ظله أنافسه على الحركة، أسير باتجاه البحيرة الهائلة، بحيرة أونتاريو، التي لا تبعد كثيراً عن مكان سكناي، بحيرة أوسع من بحر وأصغر من محيط، وبرغم أنني أمشي على مهل يُخيل إلي بأنني ما زلت أركض والدوي يلاحقني، مثل عدّاء يعرف أن لا أحد ينافسه لكنه يفترض أن هناك من يريد أن يسبقه فيحث قدميه على الإسراع·
أجلس على مصطبة، الأشجار من حولي وورائي، أشجار قيقب وسرو وسنديان، وأمامي كون أزرق من ماء البحيرة، كما لو أن السماء نزلت إليها وعانقتها، الوقت صباحاً، لدي أسبوعان من عطلة مدرسية، أشم الهواء بعمق، هواء مغمور بطعم تنوع النباتات، ينشر عبقاً غريباً يذكرني بروائح معشب أمي·· عبثاً أحاول الفكاك من تلك الروائح، حكايتها تزاحمني لكنني أرجؤها إلى وقت آخر·· الموج يواصل صخبه، هل لي أن أروّض صخب الموج قليلاً كيما أنصت تماماً لأشياء تتحرك في رأسي وأريد التخلص منها بالحكي؟
لحظة إزاحة الستار العازل بيني وبين الكلام ينطلق صوت المغني الذي لا أعرفه، يأتي صوته كما لو أنه قادم من كنائس وأديرة مهجورة، أنصت إليه بكل حواسي المثقبة بالمرارات، صوت له صدى يضرب موجات الماء فترتعش وغصون الأشجار فتوشوش، أحاول فهمه لكنني لم أستطع، ما تزال إنكليزيتي تعاني من فقر الفهم، إلا بعض الكلمات التي لا تعطي المعنى دلالته، أدرك أن كلمات المغني عن قداسات منسية تحاول إيجاد طريق لها لاستقبال العالم بدورة سنة جديدة وتذكير الناس بتلك القداسات، بكرنفالات متواصلة منذ أيام قبل أن تسقط آخر ورقة من أعمار الكائنات·
الأعياد هنا لا تشبه تلك التي رافقتني أيام طفولتي ووردة صباي، تلك الأعياد امّحت مباهجها ولا وجود لها على خارطة عالمي، ليس لها صدىً في هاملتون والمدن التي تشبهها، وليس لها الآن طعم هناك، في بلدي·
يخفت صوت المغني الذي لا أدري من أي اتجاه يجيء ليترك للموج حرية موسيقاه، أنصت إلى هذه الموسيقى الربانية في صخب الموج الذي يهدر مرة ويهدأ مرة، يتقدّم ويتراجع، أشعر كأنني في مهد يهتز بترنيمة من ترنيمات أمي، تأتي إليّ عابرة البحار والمحيطات؛ لتذكّرني أنني امرأة منفية، فتعود إليّ روائح معشبها وأكاد أشعر بالعطاس والدوخة، وتقول لي أيضاً إن المنفى بلا أذنين ولا عينين، ولا أصابع للّمس، ولا لسان ليقول شيئاً مسموعاً، إنه أبكم كهذه الحجارة الصماء المنتشرة على الضفاف، وبرغم ذلك وكلام أمي الذي لا أدري كيف وصلني فإن صداه يخترق العظام مثلما تخترقها الحمى·· ذلك هو موج المنفى·
حمامة الذكرى لا تحط قربي هنا إلا لتستعد لرحيل آخر بعكس اتجاه رياحي الراجفة، أو أنها تحط لتوخزني بنواحها، مذكرة إياي بنواح جدّاتي الأوائل أثناء عزاءات الموتى، أو حين يخترق أرواحهن الحنين، أو تحط وتمكث طويلاً فتعذبني·
هذا الهواء الرطب البارد يلامس أشياء غائرة في أعماقي بما يكفي لاستدعاءات كثيرة، أستقبله بعمق وألمُّ جسدي تحت ملابس ثقيلة يغطيها شال بُني طويل مشرشب النهايات، أرنو إلى الماء تارة وإلى السماء المغطاة بندف الغيوم البيض تارة أخرى·