رواية "يا صاحبي السجن" للشاعر والروائي الأردني د. أيمن العتوم ، صدرت في طبعتها الثالثة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر للعام 2013، وتحكي الرواية تجربة الشاعر بين عامي 1996 و 1997.
قراءة كتاب يا صاحبي السجن
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 9
كان اثنان آخران في الخارج قد تمركزوا بجانب البيت تحسُّبًا لأيّ تفكيرٍ من جهتي بالهرب، ولأنّ البيت ذو طابق واحدٍ، فقد كانوا قريبين بحركتهم هذه من النّوافذ، مِمّا أغضب أبي، فصرخ فيهم، ونَهَرهم، وعاب على الضّابط فِعلتهم، فاضطرّ هذا الأخير إلى أن يصرفهم ليعاودوا الاختباء في سيّارتهم المنزوية· الهَرب، قلتُ في نفسي!! ما أبعده عنّي وما أبعدني عنه، وأنا في هذه الهيئة من وزني الثّقيل· غير أنّهم لم يدروا أنّهم كانوا بذلك ينقشون هذا المُصطَلحَ في ذهني، ليقفز ذات مرّة إلى السّطح في إحدى ليالي السّجن الباردة·
تابَعَتِ الجوقةُ تفتيشَها الدّقيق، لم تترك ورقةً واحدة مطبوعةً عليها قصيدة، أو بضعة أبيات، أو ما هو مخطوط بخطّ يدي إلاّ جمّعَتْه، وألقت به في (كرتونةٍ) كبيرة، وكأنّها تجمع دُررًا ولئالي··· وقد كانت في نَظَرَينا كذلك !!
في غمرة هذه التّفتيشات الدّقيقة، أخذني الضّابط الّذي كان شكله مألوفًا لديّ، وانتحى بي في إحدى نواحي الغرفة، وخاطبني بصوت خفيض: لقد قرأت لك قبل أيّام قصيدة: (قالوا حجابك)، وإنّها من أروع ما قرأتُ لك··· كم أنت جميلٌ أيّها الشّاعر··· لم أكن أدري لماذا فعل معي ذلك؟ هل كان بهذا التّصريح بعيدًا عن الأعين والأسماع ينطق بحقيقة ما يُكنّه لشعري؟! أم أنّه قال ذلك من باب تلطيف الأجواء بعد أن رأى أنّ غيومًا من التّوتّر تسود الغرفة آنذاك، فأراد أن يبدّدها بمعسولٍ من الكلام؟! لا أدري··· ولكنّه - بالفعل - نجح في أن ينقلني أنا - بالذّات - إلى مراتب أخرى امّحت فيها بعض التوجّسات من ذهني· هتفتُ به: حقًّا؟! فأجاب: أنتَ لا تحتاج منّي إلى مدح، فشعرك معروف· اكتفى بذلك، وانضمّ إلى زميليه الأخرَين ينهشان في جسد غرفتي الّتي أصبحت الكرتونة في منتصفها تُشبه مركزًا يجذب إليه الأوراق من كلّ صوبٍ وناحية··· استغرق تفتيش الغرفة ما يزيد عن ساعةٍ، وبعد أن شعرت الجوقة بالامتلاء، قال لي أحدهم: كلّ هذه الأوراق تستطيع استعادتها، بعد أيّام قليلة، هي لك ومن حقّك المراجعة بشأنها، ساعة تشاء··· والآن عليكَ أن تتفضّل معنا، لبعض الإجراءات الرّوتينيّة، لن يستغرق ذلك أكثر من ساعتين، بعض التّحقيق في أمورٍ بسيطة وتعود إلى أهلك···
كنتُ حينها قد وصلتُ إلى درجةٍ كبيرةٍ من اللامُبالاة، أو قل من التّحدّي، الورقة الّتي مَهَرها مدّعي عام محكمة أمن الدّولة بتوقيعه كانت تقضي بالإضافة إلى تفتيش غرفتي، أن تعتقلني، وتخوّل الضّابط ذا اللّباس العسكريّ بذلك· قلتُ لهم: إنّني أريد أن ألبس ثيابي لأذهب معكم، قبلوا الأمر بعد تردّد، وظنّوا أنّني سأهرب في هذه الأثناء، ولكنّي طلبتُ هذا الأمر من أجل أن أذهب في الدّاخل إلى أمّي· ودّعتُها - ومع أنّني كنتُ أشعر بأنّ الغياب سيطول - إلاّ أنّني خاطبْتُها لأطمئنَها: سأعود بعد ساعتين يا حَجّة··· لا داعي للقلق··· نظرتْ إليّ بعينين تفيضان حنوًّا وشَكًّا··· كدتُ أضعف أمامهما: ولكنّي أعدتُ على مسامعها: لا تخافي، سأعود قريبًا·· ليس أكثر من ساعتين إن شاء الله··· خرجتُ وكأنّ سِكّينا من الإشفاق على أمّي انغرز في ظهري، لم أكن أريد أن أسبّب لها الأسى··· غير أنّ الأقدار تمضي على غير اختيار···
أحاط بي اثنان منهم، وتوجّهوا بي إلى سيّارة المخابرات الّتي اختارت النّاحية المُعتمة من قطعة الأرض الّتي تربض في الجهة الغربيّة من البيت، ومعها سيّارة الشّرطة· أجلسوني بين فردين من أفراد الأمن في المقعد الخلفيّ، كانت المسدّسات تستقرّ على جانب كلّ شرطيّ، وأنا قابع بين مُسدَّسين·
كانت السّيّارة المُسلّحة تقطع بي الطّريق اللّيليّ إلى الدّائرة· لأوّل مرّة أشعر بي؛ نِعمةٌ كبيرةٌ يُسديها إليكَ الآخرون، حين يُشعرونك كم أنتَ أنتَ· وَشْوشات الجِهاز كانت تقطع عليّ أحلامًا تمتدّ لسنوات أصنعها في لحظة· تبدأ الآن فرص الحياة بالتّقافز، لأوّل مرّة يتغيّر روتين حياتي؛ أشعر بالجديد في رتابة أجوائي، لا بدّ أنّني مُقدِمٌ على مرحلة عشق جديدة، كسر مرحلة الجمود والرّتابة لا يحدث معي إلاّ في حالات العشق!! أيُعقَل أَنّني أمارس الآن واحدًا من طقوسه ؟!
كانت عيوني تُقبّل الأرض، وأعمدة الرّوح تنير الطّريق، والسّماء تبتسم للتّراب، والأرض والطّريق والتّراب كلّها مجتمعةً تُشكّل الجسد الجديد لمحبوبتي القديمة··· أنظر إلى الأرصفة والطّرق، كنتُ قبل هذا اليوم أحفظها غيبًا، أمّا اليوم فأنا أرسمها، أكاد أجزم بأنّ سيّارة الأمن سارت في الطّريق الّذي رسمْتُهُ في مخيّلتي، رغم أنّه لم يكن غريبًا على أحدٍ فينا، ولكنّه كان من صُنعي أنا!
أيّها الوطن؛ فاتحة البدء: مساء الخير! أوّل مرّة أعرفك على هذا النّحو، أتُصدِّق؟!! إنّها المرّة الأولى الّتي أشعر فيها كم أنا أحبّك، وكم أنتَ مخبوءٌ فِيّ· أيّها الطّائر الّذي يستيقظ من جديد: ها أنذا أهيئ لك أعماقي لتتغلغل فيها··· لقد جئت على قَدَرٍ··· يا··· وطني!!