هذا الكتاب "تاريخ ومحطات - سيرة ذاتية تؤرخ لكلية الطب العراقية" لمؤلفه د.
أنت هنا
قراءة كتاب تاريخ ومحطات - سيرة ذاتية تؤرخ لكلية الطب العراقية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

تاريخ ومحطات - سيرة ذاتية تؤرخ لكلية الطب العراقية
الصفحة رقم: 3
توطئـــة
في وقت متأخر من بعد ظهر أيلولي قائظ عام 1982 وصلتني إشارة تلفونية من إدارة كلية الطب بالموافقة على إحالتي على التقاعد لأسباب صحية، بناء على طلبي الشخصي·
وما إن استوعبت الخبر حتى زال عني تعب النهار وشعرت بخدر وراحة يتسللان إلى نفسي· ثم انهالت علي ذكريات عزيزة كنت أحسبها امَّحت وإلى الأبد من سجل الذاكرة· وعاد بي العمر إلى أوائله رجوعاً إلى أيام الصبا والشباب، وأنا أربط الليل المنصرم بصباح آت، متجاوزاً فطوراً أعدته الوالدة خوفاً علي من جوع يهدد حسن تقديمي للامتحان·
وكشريط سينمائي جلست أنظر إليه بعين والهة واسترجعت من الحوادث التي أصابتني في الصميم ولم تصب مني مقتلاً بل زادتني همة ورجولة·
وها أنا بعد عمر امتد خمسين عاماً ونيف في الخدمة الطبية، أزيل عني تبعات الحاضر وإرهاصاته، أذهب إلى حال سبيلي، متخلياً عن كل شيء سوى نفسي وتجاربي الفنية، ومرضاي من جميع شرائح المجتمع، وما قاسيت من تصرفاتهم مما يشرح القلب وما يدميه ويتعبه· إن مهنة الطب في العراق ليست بالمهمة الهينة، والتعامل مع الناس من أصعب الأمور، وعليك أن تتحلى بالأخلاق القويمة والحكمة وقوة الشكيمة·
وعادت بي الذكرى إلى الرجل الحكيم في مقر المستشفى الملكي في يوم التحاقي بها طبيباً حدثاً، والذي أصر علي أن أذكر له رقم وتاريخ تسجيلي في نقابة الأطباء، فاستغربت فقال، إننا نحسب هذا التاريخ بداية الخدمة، وعندما تحال على التقاعد يحسب موعده كموعد لانتهاء الخدمة الفعلية، وبين هذين الموعدين والتاريخين هو فترة الخدمة الفعلية في الدولة العراقية· فقلت والعجب يملأ نفسي : التقاعد ؟ فأجاب : نعم ياولدي سوف تتعبك الأيام وما تحمله لك من مفاجآت، وسوف تمل الناس وتصرفاتهم·· إنه العراق·· ياولدي، إسأل مجرباً ولا تسأل حكيماً·· سوف تأتي إلي·· إذا امتد بي العمر طالباً وسائلاً بل مستجدياً إعفاءك من الخدمة، فلا تعجب من الدنيا والحياة، وسوف تريك العجب العجاب، وضحك حتى بانت نواجذه السود المتآكلة من فعل الزمن والدخان·
وعدت إلى نفسي، مرة ثانية، والليل يسدل أستاره الثقال على الدنيا، ولم أنتبه إلى موعد العشاء، بل رحت أقلب ساهماً صفحات حياتي منذ أيام التلمذة صعوداً إلى ما أنا عليه متقاعداً، فوجدت نفسي رئيساً لطابق جراحي عامر، في قلب أكبر مستشفى تعليمي في بغداد، وأستاذاً كاملاً في فرع الجراحة، كلية الطب، جامعة بغداد· تسلقت سلم الدرجات العلمية بجهدي المحض، وإذا أنا بنفسي أقدم طلباً لإعفائي من الخدمة لأسباب مرضية، وباستطاعة القارئ العزيز أن يقدر مدى معاناتي للوصول إلى هذا القرار بإحالتي على التقاعد، وبدلاً من التمسك والاعتزاز به فإذا بي أستهين به لأنأى بنفسي عن دوامة الفوضى· وأدركت معنى المثل القائل بأن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة، وما علي سوى التشبث بأخلاق الرجل الرياضي·