يرصد الكاتب صقر أبو فخر في كتابه «أعيان الشام وإعاقة العلمانية في سورية» الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والــنشر في بيروت؛ تطورات تكوّن النخب في ســـورية من مرحلة الانتداب الفرنسي، مروراً بمرحلة الاستقلال، إلى المرحلة التي حكم حزب البعث فيها، وصولاً إلى
أنت هنا
قراءة كتاب أعيان الشام وإعاقة العلمانية في سورية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
أعيان الشام وإعاقة العلمانية في سورية
الصفحة رقم: 2
سورية، بعد الاستقلال، كانت جمهورية أوليغارشية (حكم القلة) شبه ليبرالية· وكان الهم الأول للنخبة الحاكمة هو تماسك الدولة الجديدة في وجه مطامع الهاشميين في الأردن والعراق، ثم التنافس على تقاسم المغانم· فمالكو الأرض والتجار نظروا إلى الدولة السورية الجديدة على أنها مجموعة من المؤسسات التي تخدم مصالحهم وتحميهم من الاضطرابات الاقتصادية· ويتجلى ذلك في قوانين العمل التي صدرت آنذاك، وفي قانون الإصلاح الزراعي الصادر في كانون الثاني 1952· ففي قانون الإصلاح الزراعي جرى فرض حدود على الملكية العقارية· لكن، بعد أشهر قليلة، صدر قانون جديد يتضمن سقفاً عالياً للملكية، الأمر الذي جعل قانون الإصلاح الزراعي كأنه لم يكن· أما قانون العمل فلم يمنح العمال أو الفلاحين أو العمال الزراعيين أي ضمانات جديدة إلا بعد تنظيم تظاهرات وإضرابات في سنة 1954· وقد وجدت الطبقة الحاكمة مخرجاً من مطالب الفلاحين في ريف حماه هو توزيع أملاك الدولة على الفلاحين بدلاً من توزيع أجزاء من أراضي الملاك الكبار على فلاحيها؛ فقد كانت أربع عائلات تملك مئة وعشر قرى، كلياً أو جزئياً، في محيط حمص هي: العظم، البرازي، الكيلاني، طيفور·
حطمت نكبة فلسطين الجمهورية الأوليغارشية في سورية، وهزت شرعية جيشها، فبدأت سلسلة من الانقلابات العسكرية التي كنت تعكس، بشكل جلي، التدخل الخارجي من جهة (تركيا والأردن والعراق ومصر والسعودية)، ومن جهة أخرى، التشقق الداخلي· وفي خضم هذه الاضطرابات، وجراء بعض الإجراءات المساواتية في الكليات الحربية التي صارت تقبل أبناء الأرياف بعدما كانت مقصورة على أبناء العائلات المدينية، صعد إلى السلطة ضباط من طوائف منشقة على الإسلام (إسماعيليون وعلويون ودروز)، ومن مناطق طرفية سنية (حوران ودير الزور)، وتحول الجيش إلى مؤسسة تتصادم فيها المكونات السورية كلها· وبالتدريج، راح النفوذ السني المديني ينحسر في هذه المؤسسة لمصلحة الطوائف والجماعات الريفية، بمن فيها أبناء السنة القادمون من المناطق الطرفية· واستمرت الأحوال على هذا المنوال حتى استيلاء اللواء حافظ الأسد على السلطة في 16 تشرين الثاني 1970، فدخلت سورية في طور جديد، كان من بين علائمه عقد تحالف وثيق بين السلطة العسكرية الجديدة والتجار ورجال الدين· فقد ظفر الجيش بالسلطة، وأحكم سيطرته على الدولة، وكان عليه أن يُحكم سيطرته على المجتمع حتى يستتب له الأمر· وفي هذا الميدان نال تجار دمشق، وتجار سورية معهم، كل ما أرادوه من قوانين وتسهيلات لزيادة ثرواتهم وعائد تجارتهم وحماية رساميلهم، وبات رجال الدين أسياد الناس· وحدهم مالكو الأرض التقليديون (وبعضهم تجار في الوقت نفسه) ما عادوا أسياد الدولة، فتحول بعضهم تجاراً عقاريين، أو نقل أبناؤهم ثرواتهم إلى الخارج ولا سيما إلى لبنان وأوروبا، علماً أن هروب الرساميل الصناعية والعقارية وقع، أول مرة، في سنتي 1957 و 1958 عشية الوحدة المصرية ـ السورية، ثم في سنة 1965 غداة التأميمات العشوائية، وكان له الأثر الكبير في الازدهار العمراني الذي شهده لبنان في خمسينيات القرن العشرين وستينياته، كما كان له الأثر السلبي الكبير أيضاً في الاقتصاد السوري الذي لم يلبث أن ظهرت عليه علائم الركود· ولولا حرب تشرين الأول 1973، وارتفاع أسعار النفط، وتدفق المساعدات العربية على سورية لما تحملت سورية عقابيل هذا الركود، الذي توارى خلف بعض القطاعات الخدمية التي ازدهرت موقتاً كالإسكان والطرق والتوسع في وظائف القطاع العام والسياحة ··· الخ· غير أن سورية التي شهدت سنوات مرة جراء كبح قطاع الاستيراد والاعتماد على السوق السوداء ومنافذ التهريب من تركيا والأردن ولبنان، انقلبت على ذلك كله ابتداء من منتصف تسعينيات القرن العشرين·
اتبعت سورية منذ صدور المرسوم رقم 10 في سنة 1995 سياسة عامة حاولت نسخ الطراز الصيني، أي نظام سياسي مركزي واقتصاد ليبرالي إلى حد ما· لكن الطراز الصيني حين جرى تطبيقه في سورية تحول إلى كاريكاتير· فالانفتاح الاقتصادي الجديد، في غياب البرجوازية الصناعية والعقارية القديمة، أدى إلى ظهور مئات رجال الأعمال الجدد الذين تركزت استثماراتهم في الخدمات كالعقارات والإسكان والنقل والسياحة (وهي قطاعات مترابطة المنافع)، وهؤلاء صاروا، بالتدريج، شركاء للسلطة العسكرية ويعتاشون، في الوقت نفسه، على العقود التي توفرها لهم هذه الشراكة، ولا سيما في حقل الإنشاءات والتوريد إلى المؤسسات الحكومية· ورويداً رويداً أصبحت السلطة، على المستوى الاقتصادي، اللاعب الأول بين لاعبين، وما عادت قادرة وحدها على احتكار السياسة والاقتصاد والعنف معاً· وفي الوقت الذي كان الاقتصاد السوري يشهد تنوعاً في المستثمرين، كان احتكار القلة هو السائد في بعض القطاعات شديدة الربحية؛ كالاتصالات الخلوية والإعلانات والتبغ وغيرها· وفي المقابل، لم تؤد هذه التحولات الاقتصادية إلى توسع نطاق المجتمع المدني، بل بدأ هذا المجتمع بالضمور لمصلحة المجتمع الأهلي، بعدما اختلج مرة واحدة مع تسلم الرئيس بشار الأسد السلطة في سنة 2000، وإطلاقه الوعود الإصلاحية· وبدلاً من أن تنطلق عملية إعادة تكوين المجتمع المدني في سورية على صورة المجتمع السوري نفسه، أي إطلاق الحرية في تأليف الجمعيات والنقابات والمنظمات المدنية والصحف ··· الخ، بدأ هذا المجتمع بالتخلخل عند أول اصطدام له بالسلطة، وخصوصاً بعد احتلال العراق في سنة 2003، واكتفى الناشطون بوسائط التواصل الاجتماعي، والكتابة في وسائل الإعلام اللبنانية، الأمر الذي عكس هشاشة هذا المجتمع الذي خضع للتهميش والإلغاء منذ نحو أربعين عاماً، في الوقت الذي استعادت السلطة قدرتها على القمع المدروس بدقة بعد عودة القوات السورية من لبنان إلى مواقعها في سورية في سنة 2005·
تكونت البرجوازية السورية الجديدة في ظل البعث· واشتهر من رجالها صائب نحاس ورياض سيف ورامي مخلوف وفراس طلاس ومحمد بهجت سليمان وجمال خدام وسامر العطار وراتب الشلاح وغيرهم كثيرون· غير أن هذه البرجوازية المحدثة لم تكن قادرة بالتأكيد على مواجهة العولمة وشروط التجارة العالمية في عصر حرية التبادل، حتى إن بعض الاتفاقات الاقتصادية، مع تركيا مثلاً، أدت إلى إفلاس كثير من الصناعات الحدّية ذات الحجم المتوسط، علاوة على انهيار بعض الحرف· والسياسات الاقتصادية التي اتبعها النظام منذ سنة 1990 فصاعداً، والتي جاء معظمها كتوصيات من صندوق النقد الدولي، أدت إلى انفكاك جماهير الريف عنه·
حزب ريفي بات الريف ضده· هذه هي صورة الأحوال في مطلع الألفية الثالثة· وحزب شبه علماني انجرف أعضاؤه إلى التدين· ذلك لأن ظهور المدن المتضخمة سكانياً ذات الأرياف المهمشة وأحزمة البؤس حول المدن التجارية الباذخة، علاوة على أخبار الفساد والثروات الهائلة، ثم الوقاحة في المجاهرة بالثراء، أدى، ذلك كله، إلى الانجراف نحو التدين كردة فعل تلقائية على السلوك الاستفزازي للأثرياء الجدد· أما الوجه الآخر لهذه العملية الاجتماعية فقد تجسد في سهولة إدارة الظهر للعلمانية، وفي الاتجاه نحو شعبوية إسلامية رثة، تماماً كما فعل صدام حسين إبان الحرب مع إيران وغداة هزيمته في الكويت في سنة 1991، حين كتب عبارة الله أكبر بالأخضر على العلم العراقي· والأمر نفسه حدث في سورية منذ سنة 1970 فصاعداً: الإصرار على تأكيد إسلام حافظ الأسد، من خلال الصلاة في الجامع الأموي في عيدي الأضحى والفطر إلى جانب الشيخ أحمد كفتارو؛ تأسيس مدارس تحفيظ القرآن؛ اتساع ظاهرة النساء القبيسيات (منيرة القبيسي)؛ تزعم الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي ومحمد حبش منابر الإعلام الرسمي، فضلاً عن محمد غول أغاسي (أبو القعقاع) إمام جامع الإيمان في حلب، قبل أن يغتاله بعض مريديه في سنة 2007 بتهمة الردة عن الفكر الجهادي· لقد بُني من الجوامع في عهد حافظ الأسد أكثر ما بني في سورية منذ الاستقلال حتى سنة 1970· لذلك ليس من المستغرب ألا تتخذ ردة فعل أحزمة الفقر على المدينة وثقافتها شكل الاحتجاجات الواعية والمنظمة والشاملة، بل شكل الاحتجاجات الدينية أو القومية المتطرفة·