"المثقف والثقافة" إصدار فكري للباحث الأكاديمي الأردني زهير توفيق صادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2013 . و تناول في فصوله الثلاثة موضوعات متنوعة عن الثقافة والمثقف ومفهوم الثقافة الوطنية . في كتابه الجديد يقول الأستاذ زهير توفيق:
قراءة كتاب المثقف والثقافة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
المثقف والثقافة
الصفحة رقم: 2
النخبة الثقافية
ازداد الاهتمـام بمفهوم النخبـة في الفكر الغربي، وأصبح مثار جـدل واسـع في الفلسـفة السياسـية وعلم الاجتماع السـياسـي، وشـكّل رداً يائسـاً على الإبستمولوجيا الماركسـية، لاسـتبدال مفاهيمها الحيـة: كالطبقة، والصراع والتاريخ، والثورة، والتناقض، والسـلب، والتجاوز، بمفاهيم أخرى، توحي بالثبـات والاسـتقرار مثل: النخبـة والتنـافس، والتوازن، والإصلاح، والنظـام· واسـتدعى ذلك تجـاهل البنى الاجتماعية الكبرى: كالطبقة، والنقابـة والحزب، والثورة، بوصفها مجرد سـرديّات (أوهام) سـيطرت على العقل الغربي، وقد آن الأوان لعزلهـا وتجاوزهـا لمصلحة البحث العلمي؛ أي الاجتماعي الإجرائي، الذي يركّز على موضـوعـات وبُنىً فرعية·
جاهد الفكر الاجتماعي الغربي، وخاصة الأميركيّ لتقديم نظرية متماسكة عن النخبة ثقافياَ وسياسياً، إلا أنها محاولة يائسـة، وتنويع شكلي لتجاوز مفهوم الطبقة باعتراف رايـت ميلز؛ أشـهر علماء الاجتماع الأميركيين، الذين درسـوا المفهوم دراسة تحليليـة، وتـاريخيـة مقارنـة·
وأبسـط تعريف متعارف عليه للنخبة هو أنها الصفوة القائدة، أو الأقلية التي تستحوذ على االسلطة المادية والمعنوية، والهيبة، والمرجعية الرمزية والنفوذ، الذي يتيح لهـا الحضور الدائم، والتمتع بـ النموذجية الناتجة عن مركّب الغموض والجاذبية (الكارزما)· وهذه التجليـات هي في حقيقتهـا أدوات وسـمات للمكانة والنفوذ·
كـان المعـادل الموضوعي لمفهوم النخبة في الثقافة العربية الإسلامية الكلاسيكية وفي الآداب السـلطـانية هـو: الخـاصة مقابـل العامـة، أو الأعيـان مقابـل العـوام، والحاشـية مقابـل الرعية والرعـاع والحرافيش·
وعند اسـتعادتنا النقدية للمفهوم، لا نتجاهل الحقائق التاريخية، التي حولت المشاريع الكبرى إلى مشـاريع نخبوية بيروقراطية، تتحكم فيها طغمة تسـتأثر بالسـلطة والثروة ورأس المال الثقافي·
ولا يعني انحراف تلك المشـاريع، تسـويغ مفهوم النخبة بدلالته السلبية، وإضفاء المعقولية عليه، وإزاحة مفهوم الطبقة والصراع، وكـأن إزالة المفهوم من الذهن كافٍ بحد ذاته لإزالته من الواقع، وهو ما يمنحه وجاهـة وقدرة تداولية لا يستحقها في الخطابات الراهنة، وكـأنه نتاج طبيعي لتفاعل طبقات منقسـمة انقساماً أفقياً، متنافسة تنافسـاً ودّيـاً، لتوليد نخبة تعلوها وتتجاوزهـا، وتشـكل قاسـماً مشـتركاً لها جميعاً؛ أي إنها مجموعة الأفراد الأوفر حظاً في البقاء والسـلطة في صراعها من أجل ذلك الهدف·
حـاول كـارل مـانهـايم مؤسس علم اجتماع المعرفة الوصولَ إلى مقاربـة مشـابهـة للنخبة في تكوين المثقفين؛ بوصفهم نخبـة أو طبقـة عازلـة بين الطبقـات وفوقها في الوقت نفسه، متجردة من المصـالح الطبقية والإيديـولوجيـة، تحولها الممارسةإلى حرس للحقيقية الكلية، وإعادة إنتاجهـا رداً على تصور أنطونيو غرامشي، الذي صاغ مفهوم المثقف العضوي المنخرط في الصراع الطبقي، ممثلاً لطبقة يمنحها المعنى والهويـة·
أمـا النخبة الثقافية في عالمنـا العربي فتقترب من السـيولة المعرفية، لتعذّر ضبطهـا مفهومياً وواقعياً· أما النخب الأخرى؛ السـياسـية، والاقتصادية، والعشائرية فتمتلك في واقعها المعاش شـرعية وجودهـا وحضورها أكثر من النخب الثقافيـة، لمـا تتمتع به من قدرة مادية ورمزية على فرض الأمـر الواقع وإدامته، وتغييب الأسـس التاريخيـة، والمنطقيـة، اللازمـة لنقضها وتقويضها· وهي نخب عابـرة خارقة لأصولهـا الاجتماعية، وأكثريتها نتـاج طبيعي لطبقاتها وتكويناتها الأصغر، التي راكمت السـلطة والنفوذ والثروة، إلى الحد الذي منحها هـذا العزم والقوة والتبلور،بكونها فئـة نـاظمة لذاتها في مجتمع انتقالي ذي توجه ليبرالي، وكذلك وفَّر لها التعليم العالي، والخبرة، والإيديولوجيا الليبراليـة اتساقها الداخلي، وضاعفت قاعدتها العشـائرية من مناعتها، ومنحتهاالحماية والقدرة على التميّز، وعملت على إعـادة إنتاج سـلطتها ونفوذها المتداعي·
ورافق صعود هذه الفئات فئـات أخرى، نجحت في ارتقاء السلم الاجتماعي، قدِمت من أصول أدنى، اعتمدت على نفسها، والتحقت بالنخبة السـابقة من دون عقبات تذكر، مـا دامت تعيش في مجتمع مفتوح، أو ليبرالي قـادر على احتواء المغايرة والاختلاف، وتوجيه الحراك الاجتماعي لخدمة مصالح فئوية خاصة، وإنتـاج أدوار جديـدة وتوزيعها على الطامحين والطامعين الجدد·