"المثقف والثقافة" إصدار فكري للباحث الأكاديمي الأردني زهير توفيق صادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2013 . و تناول في فصوله الثلاثة موضوعات متنوعة عن الثقافة والمثقف ومفهوم الثقافة الوطنية . في كتابه الجديد يقول الأستاذ زهير توفيق:
قراءة كتاب المثقف والثقافة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
المثقف والثقافة
الصفحة رقم: 7
ومنذ تحرير إميل زولا بيان المثقفين إني أتهم سنة 1898، ثم رد كليمنصو عليه بمقالته بيان المثقفين وظهور الانتلجنسيا الروسية قبل ذلك؛ تبلور مفهوم المثقف، وأصبح ذلك الشخص الأكاديمي الباحث في شؤون التقنية أو العلوم الإنسانية، أو الموظف في البنية الفوقية للمجتمع الذي يعيش على فائض القيمة من الكادحين المنتجين للقيم المادية، ويحمل وعياً نقدياً، ودائم التطلع نحو المستقبل والتغيير·
إلا أن الثورة العلمية والتغيرات الراهنة تجاوزت هذا التحديد الوجودي للمثقف، فقد تحول العلم نفسه إلى قوة مادية تستبق نظرياته المطالب الشعبية، وتخلق حاجات جديدة لها، ثم تداخل البحث والتطوير النظري بالإنتاج، وتحول العالِم أو الباحث إلى مثقف بالفعل، واضطر لاتخاذ مواقف سياسية واجتماعية، كما بينت التغيرات الحداثية الراهنة ذلك الطابع التاريخي والنسبي لمفاهيم الوجودية، التي نظّرت لمفهوم المثقف، وفتحت المجال لمراجعة مقولات غرامشي بصدد المثقف والثقافة، وفحص مسلماته من جديد·
فالعالِم -في العلوم النظرية أو التطبيقية - يبحث عن حقيقة موضوعية في واقع متحرك، ويبدأ بصياغة فرضياته التي هي أصلاً نتائج غير مثبتة، تتضمن على نحو أو آخر رؤية معيارية للأشياء، ويتمنى من الثورة العلمية تحويل نتائجه إلى واقع وقيم نافعة· فالحقيقة بحكم ماهيتها الموضوعية نافعة، لأنها قادرة على إحداث تغيير في حياة الإنسان والمجتمع، فالباحث إذن لا يواجه مشكلات البحث وذهنه خال من الشروط الموضوعية أو الذاتية المؤثرة، مدعياً الحياد والموضوعية المطلقة· ولذلك فالعلم بطبيعته يعيد النَّظر بنتائجه، ويطرح فرضيات جديدة للإجابة عن المستجدات، لتحسين التقنيات والتطبيقات·
وهو في بحثه لا يعلق مسؤوليته كمثقف حيال الإنسانية والمجتمع، بل يدعو لتحويل النتائج المرتقبة لخدمة الجميع، وتحسين مستوى الحياة بوسائل جديدة·
وتتوسط مسؤوليته: علمه وعالمه الذي يعيش فيه، ويعي مطالبه ليصنع من نفسه مثقفاً بالضرورة، فهو عالِم بحكم مناهجه واختصاصه وبيئته العلمية المغلقة، وهو مثقف بإصراره على توظيف النتائج وربطها بحاجات البشرية، ولولا هذه الفضيلة لما تقدم العلم واحتوى مضموناً إنسانياً وتحول إلى وعي ومعيار للحقيقة·
ولكن سياسة واقعه تعانده وتحاصره في التقنيات والوسائل، وتسلب منه الأهداف القصوى والفوائد، بدعوى عدم الاختصاص والتعدي على عمل السياسي المشروع، صاحب الحق الوحيد في الهندسة الاجتماعية، الذي يحدد المعاني والغايات قبلياً، وهذا سر اغترابه الراهن في عالم تتطلب فيه الممارسة العملية والعلمية تحديد الأهداف قبلياً، كالتنبؤ بآفاق التطور والتحكم بالاتجاهات، وتغيير الواقع وتحسين المخرجات، وهذا ما سيقوده من الفهم والتحليل إلى اتخاذ المواقف والتقييم لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع؛ أي توجهاً معيارياً، طالما رفضته العلموية واعتبرته مخلاً بالنسق المعرفي·
يمكن للمثقف أن يمنح التغيير والمستقبل معنى آخر يجعله بعداً من أبعاد المنهج العلمي، الذي يعالج الواقع، لكونه المحتوى الحركي للتقدم الذي يتحقق بالخلق والتجديد، فهو يتمثل الواقع ليعالجه في صيرورته الحية التي تتضمن البدائل والممكنات والاحتمالات، فيبدو عالقاً ومفارقاً لواقع التأخر والاستبداد، ويمنحه وعيُه النقدي القدرةَ على سلب ما هو ساكن ومناهض للعقل والصيرورة، وتحويل نفيه إلى نفي لغربته واغترابه فيه·
في ظل هذا التوجه انعكست التحولات البنيوية في مفهوم الدولة والسلطة على المثقف والثقافة، فقد أنتجت الدولة الشمولية الحديثة مثقفاً آخر يتميز بأنه أداة هذا التحول، الذي نظر وخطط له بحكم وجوده وعمله بوصفه موظفاً في البنى السياسية العليا نتاج التصور والتحول الجديد· فقد عملت الدولة - التي هيمنت على المجتمع المدني، واحتكرت مصادر الثقافة والإنتاج فيه على دمجه بمؤسساتها، وحولته إلى موظف ثقافي لاستثمار تطلعاته وأفكاره، وتجسيدها في المشاريع السياسية·
بقي المثقف ضحية هذه التحولات الجديدة، فقد تصور أن شرعية وجوده في البنى السياسية تفرض شرعية المشاركة في القرار، أو توزيع السلطة بالتساوي على القوى الاجتماعية الفاعلة في الواقع، ومنها شريحة المثقفين، وسبَّب لنفسه العنت والاضطهاد، عندما طالب باسمه وباسم الآخرين بالسلطة بوصفها حقاً طبيعياً بحكم موقفه· وفي ردها عليه أثبتت السلطة الكلية أن الرهان الحقيقي قائم على الموقع، وليس الموقف في البنى الطبقية، وهي قادرة على الاستغناء عنه بتوظيف ما أنتجته الثورة العلمية في الاتصالات وتقنيات الإعلام، وإحلال الإعلاميين مكانه·
أدى هذا الوضع إلى عدم تزامن البنى الفرعية للدولة، مثل الثقافة والسياسة المكونة للنسق الكلي، فهناك بنى تكونت وتطورت سريعاً، وتجاوزت غيرها بفضل الرعاية والاهتمام، وانعكس ذلك على مستوى فاعلية المثقف في قطاعات معينة، وضعفها في قطاعات أخرى·
فالتقني الذي يعمل في قطاع يتميز بالديناميكية والتأثير المباشر في الاقتصاد والتنمية، يؤثر تأثيراً بالغاً في المجتمع بوصفه مثقفاً بالقوة، يتدخل بصفته مواطناً واعياً يهتم بالصالح العام وقضايا المجتمع، وقد يتدخل في القطاع الثقافي الأقل حضوراً وخطورة في الدولة·
ولا تتزامن أو تتساوى المخرجات هنا وهناك؛ إذ يؤثر ذلك في مستوى الاتساق في البنى الفرعية، التي تحمل بعضها بعضاً؛ أي تترابط وتحتفظ باستقلاليتها، ثم تمنح الدولة دلالة الكل الشامل المكتفي بذاته، وهذا سر التناقض والازدواجية في الفكر والممارسة·
ويحمل المثقف ذاته بذاته، ولا يجد ما يسنده أو يفسره غير تضامن أقرانه في المهنة والإبداع، فيتحول إلى كلية مغلقة على ذاتها، يحاور ويشارك أحزاباً ويقارع مرجعيات وسلطات فرعية،أو جماعات ومنظمات مجتمعية، تستعطفه وتستدرجه للانضمام إلى صفوفها، لرفع مستواها النوعي في وجه المجتمع السياسي، للحفاظ على المضمون الحقيقي للسياسة والثقافة، وتقاسم السيطرة والهيمنة على المجتمع والدولة، وأحياناً يتحول استقلال الأنساق الفرعية إلى انفصال ينتظمها النسق السياسي المهيمن على المجتمع والدولة، الذي يعمل على تسييس الثقافة وإفراغها من محتواها الحقيقي·