أنت هنا

قراءة كتاب يمامة الرسام

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
يمامة الرسام

يمامة الرسام

  "يمامة الرسام" مجموعة قصصية للكاتب العراقي علي عبد الأمير صالح، صادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2010؛ نقرأ منها:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 3
امتلأت زنزانات ذلك السجن الواسع، الكئيب، بالفنانين من الصنوف كلها ومن الأجيال كلها: انطباعيين، تعبيريين، واقعيين، سرياليين، تكعيبيين، تجريديين، طليعيين· كنا نرسم بعضنا بعضاً بأقلام الفحم على جدران الغرف الرطبة، ونتبادل الشتائم التي حفظناها من أبناء بلدنا أو من أصدقائنا الأوربيين·
 
في الأسابيع الأولى كانوا يعصبون عيوننا ويأخذوننا إلى عنابر التعذيب، وليكن الله في عوننا· هناك سمعنا موسيقى الجاز الصاخبة لسياط الجلادين، موسيقى وحشية تختلط بصرخاتنا الطويلة الحادة·· هناك، في ذلك السرداب الكائن في غرب السجن، على ما أظن، سمعنا موسيقى الجاز··· سمعناها، أول مرة· كانوا يوثقون أيدينا وسيقاننا بحبال غليظة، وأحيانا بسلاسل حديد·· كي يتمكنوا من عزف موسيقاهم، بحسب النوتة الموسيقية، فوق جلودنا التي تنز عرقاً ودماً·
 
كنا ننزل مجموعة من السلالم، ثم ننعطف يساراً، وقبل وصولنا إلى المسلخ، تصدم أنوفنا تلك الرائحة النتنة المقززة، الرائحة التي لم نشم مثيلاً لها أبداً· يهمس كل منا في سريرته: إنه المسلخ البشري·· كان يخيل لي وأنا معصوب العينين، وجهي إلى الجدار، قبل أن يخلعوا عني ملابسي، أنهم سيحولونني إلى كومة عظام ويرفعونني في نقالة كي ينظموا لي شهادة وفاة·
 
كان المسلخ يعبق بروائح عرق الأجساد، الأجساد التي تتعذب وتئن تحت السياط·· يعبق بروائح الدم·· وروائح القيء الذي قذفته الأفواه خلال حفلات السمر والعربدة·· وهكذا فقد تلطخت الجدران والأرض الأسمنتية بالدماء وبسوائل القيء وعصارات المعدة والدموع وعرق الأجساد·
 
كنا نعود بعد تلك الحفلات الموسيقية الراقصة، التي غالباً ما تستغرق ساعات طويلةً من الليل، محمومين، منهكين حتى الإعياء· لا نقوى على الوقوف· لا نقوى على الجلوس· لا نقوى على الاستلقاء·· نشعر بلهيب يستعر في كل خلية من خلايا أجسادنا· نلعن تلك اللحظات التي أتينا فيها إلى العالم· ونأسف على ضياع حياتنا ومواهبنا في بلد يحكمه ملك غير عادل·· نلعن حظنا العاثر لأن أحداً لا يجرؤ على تذكرنا، أو ذكر أسمائنا·

الصفحات