في رواية "نبوءة فرعون"؛ جاءها المخاض في ليلة كانونية مظلمة، فولدته على سجادة تغطي الأرض في غرفة النوم، وقطعت حبل الخلاص بيديها على ضوء لآلة مكسورة زجاجتها متروسة بالسخام، فلم تر وجهه النوراني النحيف جيداً في تلك اللحظة العصيبة، ولا رآه أبوه منصور الذي كان
أنت هنا
قراءة كتاب نبوءة فرعون
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 3
(1)
في نهاية القرن العشرين وأواخر العصر التلفزيوني الوسيط، وهو العصر الذي يقع بين أيام أورزدي باك وليالي الستلايت، أي العصر الذي يقع بين أعوام الموسكوفج وسنوات المنيفست، وَلدت بلقيس بنورة ابنها يحيا منصور ماشي السالمدار، فكان أبرع جمالاً من إخوته العشرة الذين سبقوه وأوفر حظًا من أختيه التوأم اللتين لحقتاه، إذ قضت واحدة منهما في رحم الأم مختنقة ووُلدت الأخرى نصف منغولية ملساء لا تفهم ولا تكف عن الابتسام·
جاءها المخاض في ليلة كانونية مظلمة، فولدته على سجادة تغطي الأرض في غرفة النوم، وقطعت حبل الخلاص بيديها في ضوء لالة مكسورة زجاجتها متروسة بالسخام، فلم تر وجهه النوراني النحيف جيدًا في تلك اللحظة العصيبة، ولا رآه أبوه منصور الذي كان يخوض في المياه الطامية بين أرض الكويت وأرض العراق، ولكن زوجات أبيه جئن إليه بعد أن توقف القصف بين غارة وأخرى، وصدحت صافرة الأمان، ورأينه نائمًا في المهد في نور الصباح الكانوني القادم من النافذة؛ فقالت واحدة للأخرى:
- ما أجمله طفل اللالة!
فسمعهن يحيا وابتسم، وبكى طلبًا للحليب فتناوبن على إرضاعه واحدة تلو الأخرى، وطابت نفسه بتذوق نكهات شائقة من الحليب يأتيه من أطباق ناعمة شهية الرائحة، والتذّ عيشًا بطعامه الهني، ونام في الأحضان نومًا رغيدًا لم تنل منه أصوات القذائف أو هدير القاصفات ولا أناشيد الفتى الوسيم توفيق منصور، ابن أبيه من هنية ضرّة بلقيس، والذي كان يصدح بها كل يوم في حديقة الدار بعد أن يأكل ويشبع، ويخرج إلى الشمس المشرقة·
بعد ذلك اليوم بسبعة أيام، أي في اليوم الرابع من شباط، ولدت هنية أم توفيق وضرة بلقيس توأمين من بطن واحدة، إحداهما ماتت فدفنوها في الخرابة بجوار بيتهم بعد أن سجلوها في شهادة الوفاة باسم صابرين، وأخرى لا تبكي ولا تجوع ولا تكف عن الابتسام، فحمدت هنية الله على نعمته وشكرته على تلك الحال وعلى كل حال، وأسمتها شاكرين باقتراح من جارها الفنان الذي وجد فى الاسم تهكمًا صارخًا على البلاد التي تسببت في موت الصغار وخراب الديار·· فأرسلت لهم بدل الضفادع والجراد والعناكب، الطائرات والقاذفات ودبابات التشالنجر والقنابل الذكية والعنقودية والألوية المجوقلة والقوات الخاصة وحاملات الطائرات والغواصات والقاصفات والسفن البرمائية والصواريخ العابرة للقارات والبراري والمحيطات·
بعد أربعين يومًا امتلأ فيها الخل دودًا، وانقطع طمث النفاس، وبتروا ليحيا غرّلته، وانفض عزاء منصور ماشي السالم دار الذي لم يعد من حفر الباطن إلى بيته قط، أرضعت بلقيس ابنها يحيا لبنها مرًّا وهي مغثوثة، فراح يتقلب في فراشه من الوجع ولا يكف عن الصراخ ليل نهار إلا عندما تأخذه إلى حضنها وتمشي به قليلاً بين الحجرات، فيهدأ لحظات معدودات ثم يعاود بكاءه العالي وهو يتلوى ألمًا من جديد· ضرتها هنية قالت لها إن هذه حرقة الحليب وأوصتها بالقونداغ وبأن تعطيه السبع مايات حتى تهدأ نفسه وتطيب آلامه، فاشترت بلقيس له اليانسون والبابونج والهيل والكمون والسعدة والورد ماوي والهندبة والمستكة وطلع النخل والبطنج·· وجمعتها، حسب ما قالت لها هنية، في إناء مليء بالماء وغلتها على النار مع ورق الياس والجوري وقشور البرتقال لحين أن فارت وتصاعد منها البخار، ثم راحت تسقي منها يحيا وهي باردة بملعقة الشاي فيعكنش وجهه الطري كلما مست الملعقة فمه، ثم سرعان ما يتمطق بها لسانه الغض على مهل، ويحتسي رشفة رشفة حلاوة ما يوجد فيها من ماء قراح· عندئذِ تهدهده بلقيس وتطبطب على كتفه وتجلب له النعاس بترنيمة تقول: