في رواية "نبوءة فرعون"؛ جاءها المخاض في ليلة كانونية مظلمة، فولدته على سجادة تغطي الأرض في غرفة النوم، وقطعت حبل الخلاص بيديها على ضوء لآلة مكسورة زجاجتها متروسة بالسخام، فلم تر وجهه النوراني النحيف جيداً في تلك اللحظة العصيبة، ولا رآه أبوه منصور الذي كان
أنت هنا
قراءة كتاب نبوءة فرعون
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 10
فقالت ناي:
- ما الحكاية؟ أكل واحد في العراق عنده أخ بالدانمارك؟
فأخبرها توفيق بأن تاقت أنفس كل من صلاح ونجاح وفلاح إلى الطيران بعيدًا عن العش بعد أن ملّ أولهم من بيع الملابس الداخلية على الرصيف، وثانيهم من نفخ التراب عن السيارات ثم قيادتها من المنفاخ إلى عتلة الرفع، وثالثهم من بيع البلابل في سوق الغزل·· فطاروا وحطوا في بلاد الله البعيدة ما عداه وعدا يحيا، طائع الأرض الذي أخذته أمه بلقيس قبل يوم إلى عين ماء في جامع براثا يقولون إنها تشفي الأطفال من الخرس، ونصبت له اليوم صينية زكريا كما في مثل هذا اليوم من كل عام، ومنذ اليوم الذي طلبت فيه يحيا من الله في يوم زكريا قبل خمسة أعوام·
ولما كان البيت قد أمحل ولم تجد أمه ما تضعه في صينية الزكريا سوى قليل من ورق الياس وإبريقه الفخاري القديم، الذي زرعت في فمه حفنة من الشعير، فقد جاءت لتوفيق الذي عاد إلى الغناء بعد أن ذهبت ناي، وقالت له وهي تحمل بيدها ورق العنب:
- هلا ذهبت إلى بيت أبو ملائكة وملأت لنا هذا الاستكان سكرًا·
فرفض وقال:
- اشربوا الشاي مرًا· ناي كانت توا هنا، لماذا لم تطلبي منها ذلك ؟
فقالت:
- إنه من أجل أن أرشه على الخبز وأضعه في الصينية بدلاً من الحلوى واللهو·
قال:
- لن أذهب·
فاختنقت بلقيس بالعبرات ونزلت دموعها على ورق الياس، وحدثت المعجزة التي لم يصدقها يحيا قط، بالرغم من أنه شاهدها تحدث أمام عينيه· فقد رأى طاع الأرض وسليل الماء عود الياس وهو يرتوي من دموعها ويتحول من غصن صغير إلى أيكة عملاقة تلتف حولها أغصان هائلة من الفستق الأخضر، وعندما همت بلقيس بالصعود إليها شهق يحيا من الخوف وسمع بلقيس تقول:
- هيا تعال·· بإمكانك الآن أن تصعد·
فنطق للمرة الأولى قائلاً وهو ينظر إلى هنية ليستنجد بها:
- بيبي·
هللت هنية وهبطت بلقيس من القمرية وبيدها عنقود عنب أخضر لمحته معلّقًا بين الأغصان كالثريا، بالرغم من أن الوقت كان خريفًا، فصعدت إليه وقطعته وقدمته إلى يحيا، وقالت وهي تبكي:
- الحمد لله الذي لم يذرك يا يحيا حزينًا·
ثم أفطرت على ماء بير وخبز شعير وتلت سورة مريم من القرآن الكريم ورفعت الشكر إلى الله العلي القدير· ونسيت هنية التى كانت أول من ناداها يحيا روماتيزمها الحاد ووضعت يحيا على ظهرها وراحت تدور به في أركان الحديقة، فتطاير الدجاج من حولها في أركان الحديقة، وسقط خيال المآتة من شدة العصف· وفي اليوم التالي نفضت هنية كونية طحين الحصة عن بكرة أبيها وخبزت أقراصًا من الخبز لفتها بلقيس بالنعناع والكراث والريحان والرشاد والمعدنوس ووزعتها على بيوت الجيران وبنات البدالة، وكلما سألها أحد عن مناسبة خبز العباس قالت وهي تسرح بنظرها إلى بعيد إنها نذرت يحيا من الله في يوم زكريا، ثم جاءها المخاض وحيدةً في البيت والقصف شديد، وولدته في الثامن والعشرين من كانون الثاني من عام الضربة الكبرى، ومات أبوه في الحرب بعد مولده بيوم واحد، ثم وضعت شمعة على كربةٍ من كرب النخل وطوّفتها على نهر دجلة ودفعتها إلى بعيد، فبادلها النهر نذرًا ببشرى، ونطق يحيا في الخامسة من عمره بعد خرس، وكان قبل ذلك يصارع الكلام لخمسة أعوام مضت، ثم في اليوم التالي لليوم الذي أخذته فيه إلى خضر الياس وروته من عين ماء علي في جامع براثا، صعدت إلى القمرية لتقطف له عنقودًا من العنب تضعه له في صينية زكريا، وقبل أن تنزل بالعنقود الأخضر الضاوي شهق يحيا وانفكّت عنه كبسة الخرس· هذه القصة ظلت بلقيس تعيدها وتزيد عليها كلما سألها أحد عن لسان يحيا: هل انفكت عقدته؟·· وعلى المسامع نفسها كانت تعيد وتزيد وتعيد وتزيد، ثم قبل أن تسكت تنتهي إلى القول:
- ولو بيتنا قريب كان جبتلكم طبق حمص وطبق زبيب·