رواية "اللعنة" للكاتب د. أمجد نواس الصادرة عام 2007، نقرأ منها:
شعرت بنموٍ سريع في جسدي، فأربكني هذا النمو، أحسست بأني لم أعد متناسقاً، وكأني ألبس جسماً مستعاراً فضفاضاً، إنتابني القلق لأني لم أعرف إن كنت قد أصبحت كبيراً أم مازلت صغيراً!!
أنت هنا
قراءة كتاب اللعنة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

اللعنة
الصفحة رقم: 1
اللــعنــــة
شعرت بنموٍ سريع في جسدي، فأربكني هذا النمو، أحسست بأني لم أعد متناسقاً، وكأني ألبس جسماً مستعاراً فضفاضاً، إنتابني القلق لأني لم أعرف إن كنت قد أصبحت كبيراً أم مازلت صغيراً!!
أصبت بذعر شديد لطول قامتي، وأحسست بثورة حقيقية داخل أعماقي، شعرت بنوع من الإنطواء على ذاتي مصاحباً لداء المسؤولية، تركت ألعاب الطفولة وفكرت أن أعمل مبكراً كي أكسب المال لتغطية نفقات أسرتي بكل متطلباتها الكبيرة.
قررت ترك المدرسة عندما كنت في نهاية المرحلة الإعدادية، فأنا لم أحب الدراسة أبداً، حيث كان المعلم يضربني، بينما كنت متمرداً على أوامر المعلمين، وكلاهما كان سبباً كافياً لتركها، أما السبب الأساسي والموضوعي فهو عائلتي.. فأنا أصغر إخوتي الخمس وأخواتي الأربعة، كنت في العاشرة من عمري عندما توفي والدي قبل خمس سنوات، ولم أرث بعد وفاته السعادة بل الشقاء والفقر وعائلة لا يعلم بها الا الله.
الذكور فيها يضم شقيقي الأكبر " أسعد" الثاني تسلسلياً، متزوج من إمرأة تكبره بسنتين، مطلقة ولها ابنتان من زوجها الأول، يدعي أنه يحبها، يعمل أعمالاً حرة، لا يتحمل أي نوع من المسؤولية تجاه العائلة.. شقيقي الثاني "وليد" الثالث تسلسلياً، يقضي منذ مايزيد على عام أيامه ولياليه في السجن، بعد أن اختلف مع أحدهم بسبب فتاة، إدعى كلاهما حبها.. وهو عدواني بطبيعته فقتله وحكم عليه بالسجن المؤبد في زنزانة تقتل الأزمنة.
أما شقيقي الثالث "لطيف" الخامس تسلسلياً فهو يدرس إدارة الأعمال في السنة الثانية في إحدى مدن تركيا بعد حصوله على منحة دراسية لتفوقه في الثانوية، على إتصال مع والدتي بمعدل مرة كل عام، وهو " كافي شره" لا يأخذ أو يعطي مالاً.
يليهم شقيقي الرابع " أحمد " السادس تسلسلياً، يعيش في أمريكا منذ عام، بعد أن ذهب إلى هناك. لا أدري كيف ذهب؟ ولا أحد يعلم عنه شيئاً!
هذا إرثي على صعيد الذكور الذين يعتمد عليهم في مجتمعنا الشرقي فهم المعين واليد الثانية للأسرة، عقول يخفيها التصنع، وأجساد تحمل الأنانية. أما على صعيد الإناث فورثت "باسمة" أكبر أخواتي والأولـى في الترتيب التسلسلي، تعاني من تخلف عقلي، حبيسة في البيت. أما "نوال" الثانية بين الإناث والرابعة تسلسلياً فهي متزوجة من نجار، تعيش معه في الخليج حيث يعمل، تزورنا مرة كل سنتين.
"أنوار" هي الشقيقة الثالثة بين الإناث والسابعة تسلسلياً.. فتاه متحررة.. تكتب شعراً وخواطر أدبية، مرهفة الإحساس.. تختزن العذوبة، قليلة الأكل، كثيرة القراءة، تدرس في نهاية المرحلة الثانوية. وأخيراً "تغريد" أصغر الإناث.. أكبر مني بعام واحد، مازالت في المدرسة.. متفوقة.. هادئة.. تساعد والدتي في أعمال البيت، محافظة، تملك روح المسؤولية، تقليدية كمن يعيش عصوراً ساحقة في القدم.
نسكن في بيت واحد في أحد الأحياء الشعبية، مكون من ثلاث غرف، بأجر زهيد، نقطنه منذ تزوج به والدي ولا نعرف غيره. لم يكن لي أصدقاء كثر، كنت أحب أن أكون صورة عن نفسي، لا عن الآخرين، فلم يكن هناك أحد أتشبه به أو أعتبره مثلي الأعلى، فقد هوى المثال وتصدع، وفرغ المكان بعد أن هجرته الطيور فأصبح غامضاً.
تلك هي شجرة العائلة ورابطة الدم، وذلك هو السبب الموضوعي والرئيسي لترك المدرسة، إعالة هذه الأفواه التي تركها المرحوم بدون تأمين.. حتى أنه عندما توفي كان مديوناً. وأخواني الذكور رجالاً بالإسم فقط. فلا أحد منهم يحمي الأسرة أو يوفر الأمن المادي لها، لذلك قررت أن أعمل مبكراً وقبل الأوان، شعور شفاف بجرح يشتعل، لا يعرفه إلاّ من قاسى الجراح.
رسمت في ذهني خريطة لكافة الأعمال في البلاد، صنفت تلك الأعمال إلى مجموعات بطريقتي الخاصة، المجموعة الأولى هي مهن صعبة المنال، مثل الحاكم، الرئيس، الوزير، المدير، ورئيس مجلس ادارة... المجموعة الثانية هي مهن الشهادات، مثل الطبيب، المهندس، المحاسب، والمعلم، المجموعة الثالثة هي مهن رأس المال، مثل صاحب الدكان، اللحام، المقاول، والحلاق وغيره من المهن التي تحتاج النقود، أما المجموعة الرابعة فهي مهن الأشغال الشاقة، وتبدأ من بائع الجرائد على الطرقات بقائمة طويلة لا تنتهي بعامل النظافة.
إخترت في ظل أمواج الرغبة، من تلك التصنيفات إجبارياً المجموعة الأخيرة.. لأسباب ثلاثة، أولها ، سهولة الإنتقال من مهنة لأخرى ، ثانيها أن أصحاب المجموعات الثلاث الأولى من المهن، يحتاجون الى من يعمل في مهن المجموعة الرابعة، أي مطلوبة.. أما السبب الثالث وهو الأهم أني لا أملك مؤهلات أصحاب المهن في المجموعات الثلاث الأولى .
إتكلت على المجموعة الرابعة التي اعتلاها الصدأ بعد الإتكال على الله.. قررت مع غروب ذلك اليوم أن أجرب كل المهن في تلك القائمة، وبعدها أقرر أين أستقر.

