المجموعة القصصية "باب العامود" للكاتب سمير الجندي، احتوت على ستّ وعشرين قصة، خطها الكاتب بقلمه المقدسي، راسمًا في كل منها لوحة تصور ملحمة الأرض والإنسان.
قراءة كتاب باب العامود
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
باب العامود
الصفحة رقم: 1
آجر... رحمكم الله
تخلّيت عن كل مهماتي واهتماماتي في ذلك اليوم الذي تكتلت فيه جحافل المغتصبين أمام قامتها البهية؛ لقد أغلقوا مجرى التنفس عندها، وكتموا صوتها، ونهشوا لحمها الطري الغض. يومها قررت الذهاب إلى أحضانها حتى أكفكف حزنها، وأمسح دمعة تصارع مقلتيها.
أنا تجاوزت العقد الخامس من الزمن الذي قضيته في ربوعها. سرت وقامتي مرفوعة، ثابت الخطوات من بين جموعهم المتراكمة أمام بواباتها العتيقة؛ تلك البوابات التي يعبر التاريخ من خلالها، كما عبر الأبطال العظماء. سرت على بلاطها الذي سار عليه الصلاّح والشهداء والعمّار والأولياء، والعلماء؛ مرت منه العيون والأفكار والأحلام، وزُرعت على جنباته الآمال العظام. هم يتكتّلون على درجاتها ويلتصقون على جدرانها كالبصاق المقزز. تلك الجدران التي تشي بهم إلى المرابطين فيها. هم يمنعون زهراتنا وفتيتنا وأعلامنا من المرور، وأنا من الذين لا يهتمون بوجودنا، إذ إننا عبرنا مرحلة الخطر عليهم كما يدعون.
لا بأس؛ دعهم يفكرون كما يشاؤون، أما وقد دخلت المدينة كما اعتدت دخولها، وسرت في ساحات الأقصى أتنشق الإيمان والنسيم العليل، وأرقب كل حركة من حركات المكان، هذا المكان الذي حفرت لمسته في صدري، ورضعت حبه ممزوجًا بحليب أمي، فأنا وهذا المكان في عناق أبدي.
كان على مسطبة الجنائز تابوت مسجّى فيه جثة امرأة قد توفيت في هذا الزمن الصعب. صلّينا عليها صلاة الجنازة. نظرت حولي لأرى الحضور؛ كان عددهم لا يتجاوز عدد أصابع اليدين، وكنت أصغرهم سنًّا.
بعد الانتهاء من الصلاة، توجهت أنظار الجميع نحوي. في البداية لم أدرك معنى تلك النظرات، ولكنني ما لبثت أن أدركتها. كانت نظراتهم تدعوني للمشاركة في حمل التابوت، وبصعوبة كبيرة استطعنا أنا وثلاثة آخرين من حمله. سرنا به من المسجد الأقصى باتجاه باب الأسباط. كان الحمل ثقيلاً جدًّا عليّ. بعد دقائق معدودات، أخذت أجول بناظري لعل بعضهم يأتي فيقول: "آجر آجرك الله"، إلا أنني لم أسمع أحدًا يقولها لي، أو لأي من الرجال الآخرين الذين يشتركون معي في حمل الميت.
سرنا ببطءٍ شديد وبسرعة لا تزيد عن سرعة سلحفاة هندية. أخذ خشب التابوت بثقله يضغط بشدة على كتفي حتى تقرّحت، وبدأ الدم يسيل وأنا ما زلت أئن من تحته، وكانت حالة زملائي لا تقل معاناة عن حالتي. اتفقنا أن ننزل التابوت لنستريح، ومن ثم نكمل طريقنا، وهذا ما حصل.
كان المشيعون رجالاً عجائز لا يستطيعون حمل أنفسهم على المشي، وكنا نحن الذين نحمل التابوت أقوى الموجودين، فعُدنا وحملنا التابوت من جديد لنكمل سيرنا نحو المقبرة. كانت المسافة التي تفصلنا عن المقبرة لا تزيد عن الألف ياردة، إلا إنني شعرت بأنها في الطرف الآخر من الكرة الأرضية. كنا نسير باتجاه المقبرة، إلا أنها كانت تبتعد عنا كلما اقتربنا منها! كنا ننزل التابوت كلما شعرنا بدفء الدم يبلل القميص من تحت خشب التابوت الثقيل.
وصلنا أخيرًا إلى خارج الحرم، وكان بانتظار الجنازة مجموعة من الشبان الذين مُنعوا من دخول الأقصى بسب أعمارهم التي لم تسمح لهم بالدخول حسب قانون القمع الصهيوني، ما إن لمحوا الجنازة حتى هرولوا تجاهنا، حملوا عنا التابوت وهم يقولون: "آجرْ.. آجرْ.. آجرْ.. رحمكم الله"، فقلت وأنا بالكاد أتنفس: "أجرنا وأجركم على الله".