المجموعة القصصية "باب العامود" للكاتب سمير الجندي، احتوت على ستّ وعشرين قصة، خطها الكاتب بقلمه المقدسي، راسمًا في كل منها لوحة تصور ملحمة الأرض والإنسان.
قراءة كتاب باب العامود
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
باب العامود
الصفحة رقم: 5
كانت امرأة طاعنة بالسن. ربما عاصرت العثمانيين. لم أتبين ملامح لها، فقد غرقت ملامحها بين شقوق وتجاعيد سنين طويلة بطول القرن الماضي، وكان حفيدها محمد شابا فتيًّا يقدم المساعدة لجدته، وأحيانًا يدعو أقرانه لسماع بعضٍ من قصص الجدة العجوز. هي لم تفقد ولو قليلاً من ذاكرتها على الرغم من السنين. تحدثهم عن (السفر برلك)، و(وعد بلفور)، والتقسيم، ودير ياسين، وحزيران، و242، وتشرين، والليطاني و(سلامة الجليل)، و(أوسلو)، وكل الأسماء، تحدثهم عن كوابيسها، ومع كل خط من تجاعيد وجهها هناك حكاية تشبه أساطير ألف ليلة وليلة، واليوم دون كل الأيام، جاء محمد يبحث عن مكان يجلس فيه بجانب جدته.
يهمس في أذنها، فتبتسم ابتسامة عريضة، لا يظهر بفمها سوى سن أمامي واحد لا أدري كيف حافظت على بياضه ومتانته. عجبت كيف اختطف محمد ابتسامة بهذه الروعة من وجه غمرته المأساة؟! تشوقت لمعرفة السر قبل أن أغادر هذا القبو عائداً إلى منزلي. أقلب أفكاري. لم أهدأ حتى استقر قراري على العودة إلى زيارة هذه العجوز، وهذا ما فعلته بعد خمسة أيام.
فوجئت عند وصولي، فالحوش المعتم تغمره الإنارة، والأبواب القديمة بُدِّلت بجديدة، والقبو خالٍ من العجوز، و(البابور) بُدّل بتلفاز. رأيت القبو قد اتسع بعد إفراغه من كراكيبها، وزُيِّن بألوان وردية. ثلاثة من الشباب يجلسون أمام أجهزة حاسوب حديثة، يمررون أصابعهم فوق لوحة الحاسوب بلياقة، وينقلون أفكارهم على صفحات (الفيس بوك)، ويستمعون إلى بث مباشر على قناة الجزيرة؛ خبر عاجل كل دقيقة.
رحلت العجوز قبل يومين، رحلت دون تشييع، ومحمد يجلس على كرسي خشبي إلى طاولة عليها حاسوبه الشخصي، الذي يتنقل معه أينما ذهب.
جلست ساعة بكاملها، لم أجد منفذًا للحديث. كان يشغلهم أمر جلل. لم أشأ التطفل عليهم، فحملت نفسي، ولملمت بقايا حيرتي، وأخذت أبحث عن مواصفات حاسوب أشتريه...