الكتاب الشعري "إعرابا لشكل"؛ للكاتب اللبناني شربل داغر؛ نق{أ من أجوائه:
شهوة الغائب عن ملكه
أُقبل عليها في هيئة الخارج منها·
أنت هنا
قراءة كتاب إعرابا لشكل
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
إعرابا لشكل
الصفحة رقم: 2
حاسوبي بيتي
أُقبل عليها في صحبة حاسوبي، فيما يتحدث أحدهم عن الأدب بوصفه وطنه الآخر، وأقرأ لآخر أن الشعر حديقته السرية، وتفيد عبارة ثالثة أن الكاتب ينصرف في الكتابة إلى برجه العاجي، ورابع يصرح بأن اللغة منفاه الذي يستعيد فيه وطنه المفقود، وغيرهم كثيرون ممن وجدوا في الكتابة عالماً بديلاً عن العالم على أنه منه وفيه·
وهو ما أميل إليه بدوري، على أن حاسوبي هو بيتي الآخر، بعد أن وجدت نفسي، في غير مرة، أنقاد إلى إضاءة شاشته الألكترونية مثل من يهرب من إعصار مفاجىء، من إحباط مقيم· وتكون الكتابة في ذلك تعويضاً عما لا أفوز به في الخارج، في الواقع؛ بل أكون في ذلك أطلب إقامة في عالم متخيل، مخترع، أشبه بتخدير لا يلبث أن يتبدد مفعوله السحري·
إلا أن هذا الشعور ظاهري، لا يفيد فعلاً عن حقيقته، عن واقعه، عن دوافعه، بعد أن تحققت من أن فعل الكتابة فوق الشاشة المضيئة يتعدى اللجوء، أو التخفي، أو التلطي، بل ينبىء عن عكسه واقعاً· فما تُقدم عليه الكتابة فوق بياض الرغبة، المفتوح والمتجدد بمجرد الطلب عليه، لا يقوم على الاحتماء في علبة الحاسوب وإنما على تفجير احتمالات مخبوءة، وتركيب حالات مستبعدة، وتجريب الكتابة بما ينافي جاريها الذي اعتادته وانساقت إليه· أي أن الكتابة تنصب فوق خشبة مرتجلة، وقابلة للتبدل السريع، مسرحيةً لشخوص قد يتبادلون أدوارهم، فلا يقف هذا أو ذاك فوق الخشبة وقفة الخطيب في حفل، وإنما يتوزعون حواراً هو قيد الجدل والتخاصم والتجدد·
فاللجوء إلى الشاشة البيضاء يعوض طبعاً عن صراخ لا أقوى على فعله في الشارع أحياناً، وعن كلام لا أستطيع قوله في منتدى أو مع سائق أجرة· إلا أنه غير ذلك عند بعضهم الآخر ممن طلبوا منها شيئاً يتعدى أن يكون بدلاً عن ضائع· فالاحتماء بين جدران الشاشة الوهمية قد لا يعني تلطياً لقول الممنوع، بل القيام بلعبة أخرى تتعدى المسموح والممنوع· فأية لعبة هذه؟
جرى التعامل مع الكتابة، خاصة في مجتمعات مقموعة ومنساقة إلى السكوت والطاعة، على أنها قول الممنوع، فيما هي غير ذلك أيضاً· فالكتابة تصرح طبعاً وتغيِّب كذلك· وهي تسمح ولا تسمح· تصادر القول أو تسكت عما يمكن قوله، وعما يجب قوله· وفي ذلك تستجيب الكتابة لبعض دورها، وهي أنها ليست عمياء عما يجري حولها وفيها، إلا أنها لا تكتفي بذلك، إذ أنها في ذلك تكون بدلاً وحسب عن السياسة· وفي ذلك تعمل أحزاب وإيديولوجيات ومعارضات، وتريد من ذلك التعويض عما لا تقوى على فعله فوق أرض الوقائع·
الكتابة هي غير ذلك، إذ أنها تكون في ذلك تبخس دورها· والدليل على ذلك هو أن الكثير من الكتابة هذه يفقد فعاليته بمجرد قوله، بمجرد التلفظ به· وهو ما يمكن الانتباه إليه في عدد كبير من الكتابات التي تقيدت كثيراً بمناسبات، بظروف، بصراعات، من دون أن تتكلم عن الإنسان في إجماله، وهو ما تتطلع إليه الكتابة في تطلعها الأسمى والأبعد·
فالكتابة تنشىء لكلامها بيتاً، بل وجوداً يتعدى الوجود الماثل لهذا وذاك· وهي في ذلك تضطلع بالإنسان، لا ببعضه، ولا بظرفه الضيق· وهي تتكفل به كذلك على أنه احتمال للإنسانية، لا الانقلاب من حال إلى أخرى: تعنى في ذلك بالإنسان، لا بسياسته وحسب، وتنصرف إلى ضيقه الكياني، وترسم ما يمكن أن يكون عليه·
فالكتابة شاشة حاسوب، ضوء احتمالي قد يرقى إلى الفعل·