المجموعة القصصية "صهيل الأسئلة" الصادرة عام 2002 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، نقرأ من أجوائها:
أنت هنا
قراءة كتاب صهيل الأسئلة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

صهيل الأسئلة
الصفحة رقم: 9
- ترى هل يستطيع صياغة نفسه من جديد ؟ أبناء مدينتي قد يقتلون أنفسهم غضباً لو اعتدى أحد المتسلطين على كرامتهم وقد يموتون ندماً لو اضطر الواحد منهم للتنازل عن كبريائه والاستسلام لموقف مهين·
في اليوم التالي هرب طاهر من المدرسة كما تهرب قطة من النار·
عصفت به لحظة جنون قاسية فرمى بدفاتر التلاميذ في وجه مديره حين اعترض طريقه· تركه مندهشاً وطار بسيارته في سرعة مجنونة، يريد أن ينسى الموقف وينتزع شظية الإهانة من نفسه· حولت السرعة غضبه إلى حالة نشوة، لم يعد يفكر سوى تلك في اللحظة· نسي زوجته وبناته الثلاث وجبال الكاف الملتحفة شتاء ببياض قدسي أخّاذ وهانت عليه مروج مدينتنا الخضراء وثلوجها التي طالما رفسها بحذائه الطويل وهو يعود من المدرسة محملاً بمحفظته المكوّمة ومثقلاً بكراريس القسم ومتطلعاً إلى أشجار سامقة بكبرياء ومن خلفه يسير سرب من الأطفال يهمس بعضهم في خجل: سيدي، دعنا نحمل عنك الكراسات تندفع به السيارة بجنون في الطريق الصحراوي المؤدي إلى الشمال تطارده موجات الغضب، تعترضه كتلة الشمس الملتهبة وكأنها تتهيأ للسقوط على رأسه، تتحوّل الذاكرة إلى لوحةبيضاء· لم يعد يفكر إلا في مهانته وعجزه، يمعن في السرعة فتخطفه ذروة الغضب من نفسه وتنقلب به السيارة في أحد المنعطفات المرتفعة فتقتلعه اللحظة من الحياة·
يركض الألم بداخلي وأعود إلى نفسي الغارقة في قذارة النفط، تنقبض ضلوعي وأنا أرمق الكون الغارق في سكون أسود· ينفد صبري وتحوم الذكرى الأليمة حول رأسي فأطلق صرخة يأس حادة هي كل ما أملك القيام به وسط تلك النفايات وذلك المصير الأبله·
لعن الله الساعة التي فكرت فيها بالمال، لقد صنعت جحيمي بنفسي
أقف وسط الموت، يلفني صمت قاس أطلّ على الحياة من حافة عمري هذه، ينتصب في ذاكرتي وجه والدتي فتعتريني موجة شوق جارفة إلى حنانها· أرفع رأسي محدقاً في سماء كئيبة غطتها غيوم ثقيلة لا أثر فيها حتى لطلة القمر فأدرك أن وقتاً طويلاً قد مضى·
المطر لا يعرف طريقاً إلى هذه الأرض· يتكرر قيظ الأيام فيمتلئ الكون بسحب سوداء تخنق بكثافتها الأنفاس·
البارحة صباحاً حظينا بساعة فرج مفاجئة حين هبت نسمة باردة ونحن نشيع جثمان طاهر إلى المطار ليدفن في أرضه: يا للزمن، صرنا نتصيد لحظة برد عابرة فندخر ذكراها لعام كامل·
أدرك للمرة الأولى حجم المسافة التي تفصلني عن وطني فأشعر برهبة شديدة لطولها·
عندما جئت إلى هنا، ظننت للوهلة الأولى أنني لا أستطيع الخروج نهاراً للعمل بسبب الحرارة، الشمس تنتصب بضراوة فوق الرؤوس وكأنها تتربص بها·
ينفجر الضيق فجأة بصدري كلغم قديم وتكاد روحي تقفز من بين ضلوعي فأصرخ بصوت حاد وملتاع تكسر عشوائيته هيبة الصحراء وكأن حمى غريبة سكنتني·
يبرز فجأة ضوء خافت في الظلام· لا يلبث أن يغمرني بنشوة عارمة، يظهر طيف رجل من يركض باتجاهي:
لا بد أنه لمح ضوء المصباح المنغرس في رأسي