كنت في الثامنة عشرة من عمري عندما فتح الحب عينيَّ بأشعته السحرية، ولمس نفسي لأول مرة بأصابعه النارية. وكانت سلمى كرامة المرأة الأولى التي أيقظت روحي لمحاسنها، ومشت أمامي إلى جنة العواطف العلوية حيث تمر الأيام كالأحلام وتنقضي الليالي كالأعراس.
أنت هنا
قراءة كتاب الأجنحة المتكسرة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الأجنحة المتكسرة
الصفحة رقم: 4
في باب الهيكل
وبعد أيام وقد مللت الوحدة، وتعبت أجفاني من النظر إلى أوجه الكتب العابسة علوت مركبة طالباً منزل فارس كرامة، حتى إذا ما بلغت بي غابة الصنوبر حيث يذهب القوم للتنزه، حول السائق وجهة فرسيه عن الطريق العمومية فسار خبباً على ممر تظلله أشجار الصفصاف وتتمايل على جانبيه الأعشاب والدوالي المتعرشة وأزاهر نيسان المبتسمة بثغور حمراء كالياقوت وزرقاء كالزمرد وصفراء كالذهب.
وبعد دقيقة وقفت المركبة أمام منزل منفرد تحيط به حديقة مترامية الأطراف تتعانق في جوانبها الأغصان وتعطر فضاءها رائحة الورد والفل والياسمين.
ما سرت بضع خطوات في تلك الحديقة حتى ظهر فارس كرامة في باب المنزل خارجاً للقائي كأن هدير المركبة في تلك البقعة المنفردة قد أعلن له قدومي ــ فهشّ متأهلاً وقادني مترحباً إلى داخل الدار ونظير والد مشتاق أجلسني بقربه يحدثني مستفسراً عن ماضيّ مستطلعاً مقاصدي في مستقبلي.. فكنت أجيبه بتلك اللهجة المفعمة بنغمة الأحلام والأماني التي يترنم بها الفتيان قبل أن تقذفهم أمواج الخيال إلى شاطئ العمل حيث الجهاد والنزاع.. للشبيبة أجنحة ذات ريش من الشعر وأعصاب من الأوهام ترتفع بالفتيان إلى ما وراء الغيوم فيرون الكيان مغموراً بأشعة متلونة بألوان قوس القزح ويسمعون الحياة مرتلة أغاني المجد والعظمة، ولكن تلك الأجنحة الشعرية لا تلبث أن تمزقها عواصف الاختبار فيهبطون إلى عالم الحقيقة ــ وعالم الحقيقة مرآة غريبة يرى فيها المرء نفسه مصغرة مشوهة.
في تلك الدقيقة ظهرت من ستائر الباب المخملية صبية ترتدي ثوباً من الحرير الأبيض الناعم ومشت نحوي ببطء، فوقفت ووقف الشيخ قائلاً: "هذه ابنتي سلمى" وبعد أن لفظ اسمي شفعه بقوله: "إن ذاك الصديق القديم الذي حجبته عني الأيام قد عادت وأبانته لي بشخص ابنه فأنا أراه الآن ولا أراه" فتقدمت الصبية إليّ وأحدقت بعيني هنيهة كأنها تريد أن تستنطقهما عن حقيقة أمري، وتعلم منهما أسباب مجيئي إلى ذلك المكان، ثم أخذت يدي بيد تضارع زنبقة الحقل بياضاً ونعومة، فأحسست عند ملامسة الأكف بعاطفة غريبة جديدة أشبه شيء بالفكر الشعري عند ابتداء تكوينه في مخيلة الكاتب.
جلسنا جميعاً ساكتين كأن سلمى قد أدخلت معها إلى تلك الغرفة روحاً علوية توعز الصمت والتهيب، وكأنها شعرت بذلك فالتفتت نحوي وقالت مبتسمة: "كثيراً ما حدثني والدي عن أبيك معيداً على مسمعي حكايات شبابهما، فإن كان والدك قد أسمعك بتلك الوقائع لا يكون هذا اللقاء هو الأول بيننا".