أنت هنا

قراءة كتاب الأجنحة المتكسرة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الأجنحة المتكسرة

الأجنحة المتكسرة

كنت في الثامنة عشرة من عمري عندما فتح الحب عينيَّ بأشعته السحرية، ولمس نفسي لأول مرة بأصابعه النارية. وكانت سلمى كرامة المرأة الأولى التي أيقظت روحي لمحاسنها، ومشت أمامي إلى جنة العواطف العلوية حيث تمر الأيام كالأحلام وتنقضي الليالي كالأعراس.

تقييمك:
4.22535
Average: 4.2 (71 votes)
دار النشر: ektab
الصفحة رقم: 5
فسر الشيخ بكلمات ابنته وانبسطت ملامحه ثم قال: "إن سلمى روحية الأميال والمذاهب فهي ترى جميع الأشياء سابحة في عالم النفس".
وهكذا عاد فارس كرامة إلى محادثتي باهتمام كلي، ورقة متناهية كأنه وجد فيّ سراً سحرياً يرجعه على أجنحة الذكرى إلى ربيع أيامه العابرة.
كان ذلك الشيخ يحدق بي مسترجعاً أشباح شبابه وأنا أتأمله حالماً بمستقبلي. كان ينظر إلي مثلما تخيم أغصان الشجرة العالية المملوءة بمآتي الفصول فوق غرسة صغيرة مفعمة بعزم هاجع وحياة عمياء. شجرة مسنة راسخة الأعراق قد اختبرت صيف العمر وشتاءه ووقفت أمام عواصف الدهر وأنوائه. وغرسة ضعيفة لينة لم تر غير الربيع ولم ترتعش إلا بمرور نسيم الفجر.
أما سلمى فكانت ساكتة تنظر إلي تارة وطوراً إلى أبيها كأنها تقرأ في وجهينا أول فصل من رواية الحياة وآخر فصل منها.
قضى ذلك النهار متنهداً أنفاسه بين تلك الحدائق والبساتين، وغابت الشمس تاركة خيال قبلة صفراء على قمم لبنان المتعالية قبالة ذلك المنزل، وفارس كرامة يتلو عليّ أخباره فيذهلني وأنا أترنم أمامه بأغاني شبيبتي فأطربه، وسلمى جالسة بقرب تلك النافذة تنظر إليها بعينيها الحزينتين ولا تتحرك، وتسمع أحاديثنا ولا تتكلم كأنها عرفت أن للجمال لغة سماوية تترفع عن الأصوات والمقاطيع التي تحدثها الشفاه والألسنة. لغة خالدة تضم إليها جميع أنغام البشر، وتجعلها شعوراً صامتاً مثلما تجتذب البحيرة الهادئة أغاني السواقي إلى أعماقها وتجعلها سكوتاً أبدياً. إن الجمال سر تفهمه أرواحنا وتفرح به وتنمو بتأثيراته، أما أفكارنا فتقف أمامه محتارة محاولة تحديده وتجسيده بالألفاظ ولكنها لا تستطيع ــ هو سيال خاف عن العين يتموج بين عواطف الناظر وحقيقة المنظور. الجمال الحقيقي هو أشعة تنبعث من قدس أقداس النفوس وتنير خارج الجسد مثلما تنبثق الحياة من أعماق النواة وتكسب الزهرة لوناً وعطراً ــ هو تفاهم كلي بين الرجل والمرأة يتم بلحظة وبلحظة يولد ذلك الميل المترفع عن جميع الأميال. ذلك الانعطاف الروحي ندعوه حباً. فهل فهمت روحي روح سلمى في عشية النهار فجعلني التفاهم أن أراها أجمل امرأة أمام الشمس، أم هي سكرة الشبيبة التي تجعلنا نتخيل رسوماً وأشباحاً لا حقيقة لها؟ هل أعمتني الفتوة فتوهمت الأشعة في عيني سلمى والحلاوة في ثغرها والرقة في قدها، أم هي تلك الأشعة وتلك الحلاوة وتلك الرقة التي فتحت عيني لتريني أفراح الحب وأحزانه؟ لا أدري ولكني أعلم بأنني شعرت بعاطفة لم أشعر بها قبل تلك الساعة. عاطفة جديدة تمايلت حول قلبي بهدوء يشابه رفرفة الروح على وجه الغمر قبل أن تبتدئ الدهور. ومن تلك العاطفة قد تولدت سعادتي وتعاستي مثلما ظهرت وتنساخت الكائنات بإرادة ذلك الروح.
هكذا انقضت تلك الساعة التي جمعتني بسلمى للمرة الأولى وهكذا شاءت السماء وعتقتني على حين غفلة من عبودية الحيرة والحداثة لأسير حراً في موكب المحبة، فالمحبة هي الحرية الوحيدة في هذا العالم لأنها ترفع النفس إلى مقام سام لا تبلغه شرائع البشر وتقاليدهم، ولا تسود عليه نواميس الطبيعة وأحكامها.
ولما وقفت للانصراف اقترب مني فارس كرامة وقال بصوت تعانقه رنة الإخلاص: "الآن وقد عرفت الطريق إلى هذا المنزل يجب أن تأتي إليه شاعراً بالثقة التي تقودك إلى بيت أبيك وأن تحتسبني وسلمى كوالد وأخت لك ــ أليس كذلك يا سلمى؟"
فأحنت سلمى رأسها إيجاباً ثم نظرت إليّ نظرة غريب ضائع وجد رفيقاً يعرفه.
إن تلك الكلمات التي قالها لي فارس كرامة هي النغمة الأولى التي أوقفتني بجانب ابنته أمام عرش المحبة. هي استهلال الأغنية السماوية التي انتهت بالندب والرثاء ــ هي القوة التي شجعت روحينا فاقتربنا من النور والنار. هي الإناء الذي شربنا فيه الكوثر والعلقم.
وخرجت فشيعني الشيخ إلى أطراف الحديقة فودعتهما وقلبي يخفق في داخلي مثلما ترتعش شفتا العطشان بملامسة حافة الكأس

الصفحات