اختار فالح الطويل لسيرته عنوان "مدارات الذاكرة"، حيث تعمد الجمع بين الذاكرة الشخصية والسيرة ويبدأ سيرته بعام "الثلجة الكبيرة" سنة ولادة الكاتب عام 1934م، "مدارات الذاكرة" سيرة فالح الطويل الذاتية -وهو دبلوماسي أردني سابق، وعضو في مجلس الأعيان- يغطي الجزء ال
أنت هنا
قراءة كتاب مدارات الذاكرة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
أيقظني أبي في هدأة الليل· شعرت بالبرد· التصقت ملابسي بجسمي· قادني إلى جانبه عبر ممرات تنمو عليها أشجار ذات أطوال مختلفة مضاءة بمصابيح معلقة بين الأغصان· أجلست على طاولة ذات شراشف بيضاء رطبة· تقدم منا شخص ممتلئ أبيض البشرة· تحدث أبي معه· لا بد أنه يعرفه· كان ينحني كلما قال أبي شيئا· ثم أسرع بعيدا· وبعد لحظات جاءنا بصينية نثرت فيها كتل من البيض المقلي واللحم المفروم· قال أبي:
- كل·
تلك أول مرة أرى فيها بيضا مقليا مع اللحم· لم تعجبني الفكرة· لماذا البيض واللحم سوية؟ لم أتصور أنهما يصلحان للطبخ معا· كان البيض كتلا جافة بينها قطع من اللحم المفروم· حاولت أن آكل اللحم كما أشار أبي، لكنه كان قاسيا، وشعرت بأسناني تؤلمني· كما أن البيض كان جافا وليس له الطعم الذي أحبه· أكلت دون رغبة واضحة· طلب أبي شيئا عرفت فيما بعد أن اسمه الحمص مدمس· أكلت منه فكان خشنا وليس له طعم محدد، حلو أو دسم·
فيما بعد اكتشفت أمي بأن لثتي زرقاء وأن هذا هو السبب في ألم الأسنان الذي أحسه· تحدثت مع أبي وقررا أن تداويني·
كانت طبيبة تعالج الذين يفدون إليها وخاصة منهم المصابون بالحزاز، أو بالجبخ· في معالجة الأول كانت تسخن شفرة حادة وتجرح حول الجلد المصاب جرحا خفيفا متصلا· وعادة ما كان المرضى يشفون خلال يوم أو يومين حيث يتساقط الجلد المصاب وينبت تحته جلد ناعم ويختفي الجرح والمرض·
أما الجبخ فكان يصيب الأطفال حيث تنمو في الرأس بثور تكبر وتمتلئ بالصديد ثم تنفجر لتنمو تحتها بثور أخرى وهكذا حتى يتراكم الجلد الأبيض المصاب على رأس الطفل·
كانت أمي تتناول من جعبتها أعشابا تجمعها من البرية وتعجنها مع زيت الزيتون ثم تضعها على رأس الطفل مرتين أو ثلاثا في النهار الواحد· وما هي إلا أيام حتى يشفى الجلد ثم ينبت الشعر·
سمعتهم يقولون بأن أحدا لم يعلم أمي طبها، ولكنها كانت تعتقد بأن الله لا يخيبها حين تقرر مساعدة الناس وأن هذا هو كل كفاءتها الطبية!
قالت لي:
- سوف أقطع قيد شفتك السفلى بالمسلة، وإلا فسوف تسقط كل أسنانك· هذا مرض أبو حافور، وشفيت أناسا كثيرين منه، بإذن الله· لحم أسنانك أزرق وهو ميت وهذا هو علاجه·
وقال أبي:
- لن يكون هناك ألم· سوف تقوم أمك بتسخين المسلة على ببور الكاز وتكوي القيد فينقطع· وغدا سوف تستطيع أن تأكل اللحم دون ألم· أتذكر اللحم والبيض في المشارع؟؟ وكيف أنك لم تستطع أن تأكل؟
تذكرت أن اللحم والبيض والطاولة البيضاء الرطبة والحمص المدمس والرجل الذي عرفه أبي كان في مكان اسمه المشارع· قبلت ما قالته أمي· فهي تحبني ولولا أنها كذلك لما حاولت قطع قيد شفتي·
سألت سؤالا فائضا عن الحاجة وهو ما إذا كانت شفتي سوف تتدلى بعد قطع قيدها·
كنت واثقا من أن ذلك لن يحصل· ومع ذلك سألت، كما كنت أفعل دائما، وأحيانا قبل أن أفكر فيما سأسأل عنه· لا أعرف لماذا· كان يراودني شعور مبهم يدور على نفسه كما يفعل البخار المتصاعد من أرض ما، يلمع في ذهني للحظات ثم يختفي، وهو أنني أخلق بمجرد الكلام الذي لا معنى له حالة مزيفة حولي· ربما لرغبة دفينة في درء شيء ما· الصمت مثلا أو الخوف، أو دعوة أمي وأبي لإبداء الإعجاب بي وبذكائي، عن طريق تزويدهم بسبب للحديث عني· ولهذا كثيرا ما شعرت حين أنفصل عنهم، وأخلو لنفسي، أنني وحيد· وعلى الرغم من أن مثل هذه الحالات الغريبة لم تكن تحدث دائما، إلا أنها كانت ترافقني كثيرا من الوقت مما جعلني أشعر على نحو ما بأنني لست كبقية الأطفال·
ضحك أبي حين سمعني أتساءل عن الشفة المتدلية التي لا قيد لها· ضحك ضحكته التي أعرفها· تنتشر تلك الضحكة في بطنه وكتفيه ثم يحس بها المرء تنتشر تحت لحيته التي يقصها دائما بعناية فائقة ثم عبر وجنتيه وعينيه العسليتين اللتين سرعان ما تطفحان بدمع يترقرق ويتلامع عند أطراف رموشه ثم ما يلبث أن يسيل على وجنتية·
يمسح أبي دمعه بأصابع يديه، عادة، وغالبا ما يقول في مثل هذه الحالة لا إله إلا الله، اللهم اعطنا خير هالضحك· ثم تعبر وجهه مسحة هادئة لم أعرف آنذاك أو فيما بعد ما إذا كانت حزنا أم فرحا، أم تحسبا·
اندفعت أمي نحوي تقبلني على براطمي· كانوا يسمونني أبو البراطم، ربما لكبر شفتي اللتين كانتا تتدليان عندما يزعلني أحدهم، بالإضافة إلى أسماء أخرى كثيرة، لم تكن في الحقيقة أسماء، بل أوصافا تنطبق علي في لحظة فأستحقها، مثل الدب، عندما أخسر في مسابقة أقراني الآخرين؛ والبكّاء، إذا أصررت على طلب لم يلب·
لقد أشيع عني أنني إذا بدأت البكاء فلا أتوقف· والحقيقة أن هذه كانت كذبة كبيرة أخرى· فقد كنت، إذا منعت شيئا، أنتحي جانبا بعيدا أو أصعد على سطح لا يراني منه إلا مار بالصدفة، فأبكي أو أتظاهر بالبكاء ريثما يمر ويختفي؛ فما ينقضي النهار حتى تبدأ تتوارد الأخبار من شهود كثيرين بأنني بكيت طوال ذلك النهار دون انقطاع· ولقد نجحت في خططي· فلم يتباطأ أحد بعد ذلك في تنفيذ رغباتي·
يقولون أن الأطفال أبرياء· لا أظنهم كذلك· بل يكيدون الواحد منهم للآخر وللكبار أيضا، ويخططون ويتحايلون، فإذا وجدوا أن كل هذا لم يؤد إلى نتيجة، فإنهم يغادرون المكان، دون أن يترك الفشل في نفوسهم أثرا، ويبدءون من جديد·
لم ألاحظ أنني أتميز في هذا عن بقية الأطفال، فكلهم يفعلون الشيء نفسه بطريقة أو بأخرى· أما إذا كان الطفل بريئا فهو أهبل بالتأكيد·
تناولت أمي مسلة كبيرة لامعة من تلك التي يستعملها أبي في خياطة أكياس القمح أو خيش التبن· أشعلت ببور الكاز ووضعت طرف المسلة الحاد على طرف اللهب قابضة على الطرف الأخر بقطعة قماش سميكة· احمر طرف المسلة· سألت أبي إن كان جاهزا· كان أبي جاهزا بالفعل·
وضعني بين رجليه المفتوحتين بعدأن أدخل كلتا يدي في جيبي سترته وضغط عليهما بمرفقيه كي يمنعني من الحركة ثم فتح فمي وضغط على شفتي السفلى باتجاه ذقني مما كشف عن ذلك القيد اللعين· لم يكن باستطاعتي سوى التنفس وإصدار ذلك النوع من الأنين الذي لا تستخدم في استعماله أية عضلات حركية·
تقدمت أمي بمسلتها التي لم تعد حمراء تماما وكوت به المكان الذي كانت تقصده· طشت المسلة في اللحم فشممت رائحة الشواء· لكنها لم تكن مؤلمة· قال أبي
- هذي علامة الشفا إن شاء الله·