أنت هنا

قراءة كتاب مدارات الذاكرة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مدارات الذاكرة

مدارات الذاكرة

اختار فالح الطويل لسيرته عنوان "مدارات الذاكرة"، حيث تعمد الجمع بين الذاكرة الشخصية والسيرة ويبدأ سيرته بعام "الثلجة الكبيرة" سنة ولادة الكاتب عام 1934م، "مدارات الذاكرة" سيرة فالح الطويل الذاتية -وهو دبلوماسي أردني سابق، وعضو في مجلس الأعيان- يغطي الجزء ال

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 6

دخلنا حيفا مساء خميس ما· أخذني أبي إلى بناية قريبة، صعدنا درجا ضيقا إليها· لم يكد يضرب على الباب حتى فتحت لنا سيدة سمينة مرحبة بأبي بالاسم· إنها تعرفه معرفة جيدة، هي الأخرى· انحنت لتسلم علي· مدت يدها لتصافحني· كانت تكشف عن نصف صدرها· انقبضت للمنظر· لم أستسغ قط لحم امرأة كبيرة· كدت أكره أمي يوما حين رأيتها في وضع شبيه· قالت موجهة الحديث لأبي:
- بكرة نكون اصحاب·
قادتنا إلى الغرفة التي أعدتها· ساقاها مليئان كصدرها· سألها أبي عن آخرين يعرفهم· وجرى بينهما الحديث عاديا كما يجري بين رجلين· كانت تضحك ضحكات غير تلك التي أعرفها في حكما· فالنساء في حكما لا يضحكن· خالطني شعور طاغ بأن نساء حكما لا يعرفن الضحك كما تفعل هذه المرأة·
أفقت في اليوم التالي متأخرا· قال أبي:
- سأوصلك إلى الحسبة، ثم اذهب لصلاة الجمعة·
لم أكن أعرف ما هي الحسبة· ولكنني حدست أو قيل لي أن أخي محمد سيكون هناك بانتظارنا· كان المكان يعج بالناس والأصوات· صف من الدكاكين المليئة بكل أنواع الخضار والفواكه على جانبي ممر ضيق طويل· دلفنا إلى ساحة واسعة لا يختلف ما فيها عما رأيناه في الشارع الضيق سوى في شيء واحد· كانت هناك محاقين كبيرة من النحاس الأصفر لم أر محاقين بحجمها من قبل، أفواهها متجهة إلى أعلا· لم يكن هناك أحد قريبا من أي منها· ولكن الأشخاص الذين كانوا وراءها، مختفين على أية حال، كانوا يغنون جميعا وبصوت واحد، كما لو كانوا نفس الشخص· لكن المحاقين النحاسية اللامعة كانت ذات نهايات رفيعة وتتكئ كل منها على طاولة مثل تلك التي أكلنا عليها اللحم والبيض·
شددت يد أبي وقلت بصوت عال كاف ليسمعني وسط الضجيج:
- أي هو الذي يغني في المحقان·
ضحك أبي باستغراق مرة أخرى· كان سعيدا· قال دون أن يتوقف ليفسر لي :
- هذا هو المكبر·
لا بد أن المكبر رجل يختلف عن الآخرين وله قدرة على الاختفاء· لم يكن مع أبي من الوقت لإعطائي معلومات أكثر· دلفنا إلى دكان شبيه بكل الدكاكين الأخرى ولكنه على طرف واحد من الدائرة· قال أبي:
- انتظرني هنا· رايح لصلاة الجمعة·
انطلق في الطريق التي كانت تمتد على طول الجدار الخارجي للدكان الذي كان علي أن أنتظر فيه· كان شارعا دائريا ينتهي عند نقطة النهاية ببيت حجري ذي باب جميل يصعد إليه الداخل على درج مكون من عدة عتبات· كان الدرج محاطا بسياج من الحديد الأبيض لم أر مثله من قبل·
لن أنسى ذلك الدرج· في تلك اللحظة التي كان أبي يختفي فيها، دخلت الشارع من الجانب المقابل بنت صغيرة تلبس تنورة قصيرة سوداء وقميصا أبيض· كان تنتعل صندلا أحمر يصعد منه إلى ما فوق كعبيها جوربان بيضاوان قصيران ينتهيان بكشكش لونه كلون الصندل· صعدت على الدرجات بخفة وقرعت الباب· كان لها شريط أبيض يتدلى مع جديلة صغيرة من شعرها قريبا من عنقها الأبيض· فتح الباب فاختفت وراءه· ترى ما ذا هناك؟
فيما بعد وعبر سنوات طويلة كنت أقفز من الفراش كل مرة أرى فيها نفس الدرج والباب والفتاة، بينما تستعصي علي الأسرار التي قبعت وراء ذلك الباب، لأكتشف بأنني أحلم· لم أسمها· لم يكن هناك من الأسماء التي أعرفها ما يمكن أن تصلح لها· الأسماء التي أعرفها لا تتجاوز خمسة أو ستة، ولا يصلح أي منها لفتاة يتعلق بجديلتها شريط أبيض ناصع·
وفي يوم من الأيام بعد سنوات كثيرة، خطر لي أنها بياترس من نوع ما، تلك الفتاة الصغيرة التي تعلق بها دانتي عندما كان في مثل سني، ورآها عندما كانت في سن فتاة الدرج في حيفا، تقفز ممسكة بيد أبيها وتختفي في شارع ما مرة واحدة وللأبد، ويختفي معها قلبه يتراوح عبر كل سني حياته بين نقطة ما في المجهول وبين صدره·
دخل أخي محمد الدكان الذي كنت أنتظر فيه لا بسا القنباز الفلسطيني· كان يدندن بصوته الجميل· لم يرني· اختنقت بالمفاجأة· لم استطع أن أناديه· اندفعت نحوه فاستدار عني فتأبطت ساقيه من الخلف· تفاجأ بالحركة فأخذ يدور وأدور معه· لا أعرف كم درنا· رفعني إلى صدره فدفنت رأسي هناك أقبل ملابسه·
لا أظن أنني أحببت شخصا كما أحببت محمد· كانت له رائحة تملأ على نفسي ووجودي فأمتصها من كل الفضاء حولي· وحتى عندما كان بعيدا عني لم تكد رائحته تفارق أي شيء لامسه مرة· كنت أشمها في قميص، أو فرشة افترشها أو وسادة اتكأ عليها·
كنت أعرف، يوم يفكر بالعودة إلينا من حيفا، أنه قادم ذلك اليوم· تأتيني منه رائحة خفيفة تكبر كلما اقترب في مشوار العودة منا· وعندما كان يغادر مدينة إربد إلينا على بعد خمسة كيلومترات، كنت أصل إلى حالة من اليقين بقدومه تجعلني أحدد موقعه على الطريق، فأصرخ بأعلا صوتي حيثما كنت: محمد جا··· محمد جا· وأندفع للقائه·
في البداية كانوا يقولون: أهبل مثل ابن خاله، غير أن ابن خالي أخرس أطرش لا يتكلم، وأنا لا يكاد لساني يتوقف عن الحديث· صحيح أن ابن خالي يعرف كثيرا مما هو على وشك الحدوث ويشير إلى أنه يعرف· لكنني أشم رائحة أخي فقط·
في البداية كانوا يتركونني وحيدا أسرع على الطريق باتجاه إربد· ولكنهم عندما رأوني أعود به كل مرة أندفع فيها للقائه، لم يعودوا يكذبونني· وفي كل مرة لاحقا حين كنت أصرخ معلنا مقدمه، كان الأولاد يتبعونني ويتناقل الناس قصتي مدركين أن في الأمر سرا·
كان محمد يأتينا من حيفا بكثير من اللحم، يطبخه هو بيديه· فقد كان طباخا ماهرا، ويغني لنا بصوته الرخيم أغاني عبد الوهاب يابابور قل لي رايح على فين، وأغنية أم كلثوم على بلدي المحبوب وديني· ولفريد الأطرش ياريت ياريت· كان يطعمنا وينام بيننا أنا وأخي فلاح حتى الصباح· ربما لكل ذلك دخلت رائحته لتصبح جزءا مكونا من نظامي فهي تتغذى بما أتغذى به وتعيش كما أعيش وتنمو كما أنمو·
لم يكد يصدق أنني بين ذراعيه· كان يسألني سؤالا وراء الآخر محاولاً أن يعرف كل شيء· ولكنني كنت متعلقا به وبملابسه·
أجلسني على صندوق عال ومد يده إلى أعلا نحو شيء معلق من حبل في السقف· شيء أشبه بمجموعة من قرون الماعز الصفراء، معلقة على نحو ما· كانت عيناي تتحركان معه لا تفارقانه· سقطت بعض القرون في يده وكأنها كانت تنتظر أن يمد يده إليها ليسندها· تناول واحدة منها من طرفها فانسحب منها شيء يشبه اللسان تدلى على جانب القرن، ثم تدلى لسان آخر، ثم ثالث· قدمه مني وقال يالله، حبيبي، كل· فأكلت شيئا ناعما سهل المضغ كالمخ، ولكنه ليس كالمخ طعما· ابتلعته يسهولة· أخذتني المفاجأة· لم أصدق أنني آكل· أشرت إليه أنني أريد أخرى ففعل· وهكذا حتى شبعت وعرفت فيما بعد، أن اسم هذا الشيء الذي أكلته لتوي هو الموز·
كنت قد شبعت عندما عاد أبي من المسجد· أغلق محمد الدكان· طلب مني أن أساعده في ذلك، ففعلت· سألته عندما انتهينا:
- أين الرجل الذي يغني في المحقان؟
وقف أبي ينظر· حملني محمد ووضعني في فوهة البوق أو المحقان كما سميته· كانت نهايته تضيق وليس من المعقول أن يسكن هناك إنسان· أخذني إلى حيث يتكئ المكبر كما سماه أبي· تحدث شيئا مع الشخص الذي كان إلى جانب الطاولة· ثم التفت إلى وقال:
- هذا هو المكبر· لا أحد هنا· هذا الصوت يأتي من هذه القطعة المستديرة· الصوت محفور فيها· وهذه الإبرة تلاحق تلك الحفر فيه فيغني المغني الذي حفرها·

الصفحات