الإمتاع والمؤانسة أبو حيان التوحيدي
قراءة كتاب الإمتاع والمؤانسة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 4
ألا إنما يكفي الفتى عند زيغه من الأود البادي ثقاف المقوم
فقلت لك: أنا سامع مطيع، وخادم شكور، لا أشتري سخطك بكل صفراء وبيضاء في الدينا؛ ولا أنفر من التزام الذنب والاعتراف بالتقصير؛ ومثلي يهفو ويجمح، ومثلك يعفو ويصفح؛ وأنت مولىً وأنا عبد، وأنت آمرٌ وأنا مؤتمر، وأنت ممتثلٌ وأنا ممتثل، وأنت مصطنع وأنا صنيعةٌ، وأنت منشىءٌ وأنا منشأ، وأنت أول وأنا آخر، وأنت مأمول وأنا آملٌ، ومتى لم تغفر لي الذنب البكر، والجناية العذراء، والبادرة النادرة؛ فقد أعنتني على ما كان مني، ودللت على ملكك لي؛ وأنك كنت مترصداً لهذه الهفوة ومعتقداً في مقابلتها هذه الجفوة؛ وكرمك يأبى عليك هذا، ومثولي بين يديك خدمةً لك يحظره عليك.
هذا وأنا أفعل ما طالبتني به من سرد جميع ذلك، إلا أن أغوص فيه على البديهة في هذه الساعة يشق ويصعب بعقب ما جرى من التفاوض، فإن أذنت جمعته كله في رسالة تشتمل على الدقيق والجليل، والحلو والمر، والطري والعاسي، والمحبوب والمكروه؛ فكان من جوابك لي: افعل. ونعم ما قلت وهو أحب إلي وأقرب إلى إرادتي، وأحضر لما أريغ منه، وأدخل في الحجة عليك ولك؛ وأغسل للوسخ الذي بيني وبينك، وأزهر للسراج الذي طفىء عني وعنك، وأجذب لعنان الحجة إن كانت لك، وأنطق عن العذر إن اتضح بقولك؛ وإذا عزمت فتوكل على الله؛ وليكن الحديث على تباعد أطرافه، واختلاف فنونه مشروحاً، والإسناد عالياً متصلاً، والمتن تاماً بيناً، واللفظ خفيفاً لطيفاً، والتصريح غالباً متصدراً، والتعريض قليلاً يسيراً وتوخ الحق في تضاعيفه وأثنائه، والصدق في إيضاحه وإثباته؛ واتق الحذف المخل بالمعنى، وإلحاق المتصل بالهذر، واحذر تزيينه بما يشينه، وتكثيره بما يقلله، وتقليله عما لا يستغنى عنه؛ واعمد إلى الحسن فزد في حسنه، وإلى القبيح فانقص من قبحه؛ واقصد إمتاعي بجمعة نظمه ونثره، وإفادتي من أوله إلى آخره؛ فلعل هذه المثاقفة تبقى وتروى، ويكون في ذلك حسن الذكرى؛ ولا تومىء إلى ما يكون الإفصاح عنه أحلى في السمع، وأعذب في النفس، وأعلق بالأدب؛ ولا تفصح عما تكون الكناية عنه أستر للعيب، وأنفى للريب؛ فإن الكلام صلفٌ تياه لا يستجيب لكل إنسان، ولا يصحب كل لسان؛ وخطره كثير، ومتعاطيه مغرور، وله أرنٌ كأرن المهر وإباءٌ كإباء الحرون، وزهوٌ كزهو الملك، وخفقٌ كخفق البرق؛ وهو يتسهل مرةً ويتعسر مراراً، ويذل طوراً ويعز أطواراً؛ ومادته من العقل والعقل سريع الحؤول خفي الخداع؛ وطريقه على الوهم، والوهم شديد السيلان ومجراه على اللسان، واللسان كثير الطغيان؛ وهو مركب من اللفظ اللغوي والصوغ الطباعي، والتأليف الصناعي، والاستعمال الاصطلاحي، ومستملاه من الحجا، ودريه بالتمييز؛ ونسجه بالرقة، والحجا في غاية النشاط وبهذا البون يقع التباين ويتسع التأويل، ويجول الذهن، وتتمطى الدعوى، ويفزع إلى البرهان، ويبرأ من الشبهة، ويعثر بما أشبه الحجة وليس بحجة؛ فاحذر هذا النعت وروادفه، واتق هذا الحكم وقوائفه؛ ولا تعشق اللفظ دون المعنى ولا تهو المعنى دون اللفظ؛ وكن من أصحاب البلاغة والإنشاء في جانب، فإن صناعتهم يفتقر فيها أشياء يؤاخذ بها غيرهم، ولست منهم، فلا تتشبه بهم، ولا تجر على مثالهم، ولا تنسج على منوالهم، ولا تدخل في غمارهم، ولا تكثر ببياضك سوادهم، ولا تقابل بفكاهتك براعتهم، ولا تجذب بيدك رشاءهم، ولا تحاول بباعك مطاولتهم واعرف قدرك تسلم، والزم حدك تأمن، فليس الكودن من العتيق في شيء، ولا الفقير من الغني على شيء، أما سمعت قول الناس: ليس الشامي للعراقي بصاحب، ولا الكردي من الدندي بساخر، فإن طال فلا تبل، وإن تشعب فلا تكترث، فإن الإشباع في الرواية أشفى للغليل، والشرح للحال أبلغ إلى الغاية، وأظفر بالمراد، وأجرى على العادة.