هذا الكتاب هو محاولة متواضعة لجمع تجارب امرأة عايشت الحرب في بغداد في وقت كانت فيه المدينة مستباحة للعنف والحرب؛ والموت يحصد مئة ضحية في اليوم الواحد.
قراءة كتاب 700 يوم في بغداد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
دقائق قبل منتصف الليل جاءنا الخبر اليقين. نحن ذاهبون! طلب إلينا الضابط الأميركي بصوت واثق أن نسجّل أسماءنا لدى موظف مكتب الاتصال؛ نودع بعدها حقائبنا في شاحنة النقل وننتظر إشارة الانطلاق.
وهرولنا إلى الخارج نفتش كلٌ عن باصه بين مجموعة من ست أو سبع مركبات رصاصية اللون مصفّحة وعازلة للرصاص. وكانت النوافذ الداكنة اللون تضيف أجواء من الرهبة والخوف. وانصرف السائق يتأكد من عمل راديو الاتصالات؛ ويمرّر إشارات بالشيفرة إلى السائقين الآخرين؛ بينما أحكم الركاب خوذاتهم على رؤوسهم وشدوا جانبي السترة الواقية بالأطراف اللاصقة.
وبتنا على أهبة الاستعداد للانطلاق!
صمت رهيب ساد بين المسافرين بانتظار المروحية التي سترافق موكب الباصات على طول الطريق المؤدية إلى المنطقة الخضراء والتي تعتبر أخطر طريق في بغداد.
«طريق الإيرلندي» كانت المنفذ الوحيد الذي يربط المطار الدولي ببغداد. ورغم أن طول الطريق لا يتعدى 12 كيلومتراً إلا أن اجتيازها كان يتطلب ساعة كاملة. فعشرات الحواجز ودشم الباطون المسلح نصبت على جانبيها وفي وسطها إضافة إلى الأسلاك الشائكة والمتاريس وأكياس الرمل المكدّسة أمتاراً. لكن هذه التدابير الوقائية لم تحجب عن الركاب الهجمات الإرهابية المتكررة. إذ مافتىء المتمردون يقومون دون كلل أو ملل بزرع المتفجرات على جانبي الطريق؛ في براميل القمامة وداخل جثث الكلاب الراقدة وسط الشارع. متفجرات صنعها على الأرجح عاطلون من العمل مقابل دنانير قليلة تسدّ الرمق. لا يمر يوم واحد من دون أن يقع تفجير أو اثنان أو ثلاثة على هذه الطريق. وضحايا بالعشرات من المدنيين والعسكريين. وهكذا؛ وعلى مدى عامين؛ أصبح «طريق الإيرلندي» رمزاً للفشل الأميركي في ضبط الأمن في العراق.
وفجأة تراءت لي خيوط من الضوء ترقص في الأفق؛ وأيقنت أننا أصبحنا في أمان. المروحية المواكبة لنا عادت أدراجها و أزيز صوت محركها تلاشى شيئاً فشيئاً في الهواء. عند محطة الباصات؛ وضعنا حقائبنا في صفوف عمودية على الأرض؛ وجاء مدرّب محترف يصطحب كلباً ضخماً راح يشمّ حقائبنا بحثاً عن سلاح أو ذخيرة. وعند انتهاء مهمة التفتيش سُمح لنا بالتوجه إلى الفندق ذي الطبقات الإثنتي عشرة ـ الرشيد.
في حالة من الإعياء الشديد صعدت إلى غرفتي. حنفية المياه في الحمام كانت أكثر جفافاً من حلقي. استعنت بقناني مياه معدنية لأغسل رمال الصحراء العالقة على وجهي؛ وتهاويت فوق السرير وأنا أكاد أموت من التعب.
لم أعرف كم من الساعات استغرقت في النوم؛ لكني استفقت على صوت تدفق المياه من الحنفية. قفزت من السرير لأفاجأ بالمياه قد غطّت الغرفة كلها والممشى؛ وأغرقت قدميّ حتى الكاحل.
ما هذا الطوفان يا ربي! قلت في نفسي ثم استدركت أنني في بلاد الرافدين.
عندما أزحت الستارة صبيحة هذا اليوم الأول؛ كنت أتوقع أن أرى من نافذتي نهر دجلة متدفقاً طروباً منشرحاً في ظلال أشجار البلح الباسقة في قيظ بغداد. لكنني لم أر أثراً للنهر المزاجي المجنون كما لو أن قائد المغول هولاكو قد محاه من الوجود عندما دخل المدينة في القرن الثالث عشر وأحرق مكتبتها الهائلة وألقى بمحتوياتها في النهر. كانت مكتبة بغداد تحوي أعداداً لا تحصى من المؤلفات والكنوز الأدبية ما كان كفيلاً بأن يحوّل دجلة الكبير إلى نهر من الرماد!