كتاب "جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم"، لِلْحَافِظِ ابْنِ رَجَبٍ الحَنْبَلِيِّ مُحَلَّى بِأَحْكَامِ الشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِعْدَاد وَتَخْرِيج حازم خنفر، ويقول الأخير
أنت هنا
قراءة كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم
وعلى هذا ؛ فالأعمال إنما أريد بها الأعمال الشرعية المفتقرة إلى النية ، فأما ما لا يفتقر إلى النية _ كالعادات من الأكل والشرب واللبس وغيرها _ ، أو مثل رد الأمانات والمضمونات _ كالودائع والغصوب _ ؛ فلا يحتاج شيء من ذلك إلى نية ، فيخص هذا كله من عموم الأعمال المذكورة هاهنا .
وقال آخرون : بل الأعمال هنا على عمومها لا يخص منها شيء ، وحكاه بعضهم عن الجمهور ، وكأنه يريد به جمهور المتقدمين ، وقد وقع ذلك في كلام ابن جرير الطبري ، وأبي طالب المكي ، وغيرهما من المتقدمين ، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد .
قال في رواية حنبل : أحب لكل من عمل عملاً من صلاة ، أو صيام ، أو صدقة ، أو نوع من أنواع البر أن تكون النية متقدمةً في ذلك قبل الفعل ، قال النبي ﷺ : «الأعمال بالنيات» ، فهذا يأتي على كل أمر من الأمور .
وقال الفضل بن زياد : سألت أبا عبد الله _ يعني : أحمد _ عن النية في العمل ، قلت : كيف النية ؟ قال : يعالج نفسه إذا أراد عملاً لا يريد به الناس .
وقال أحمد بن داود الحربي : حدث يزيد بن هارون بحديث عمر : «الأعمال بالنيات» وأحمد جالس ، فقال أحمد ليزيد : يا أبا خالد ! هذا الخناق .
وعلى هذا القول : فقيل : تقدير الكلام الأعمال واقعة أو حاصلة بالنيات ، فيكون إخباراً عن الأعمال الاختيارية أنها لا تقع إلا عن قصد من العامل هو سبب عملها ووجودها ، ويكون قوله بعد ذلك : «وإنما لكل امرئ ما نوى» إخباراً عن حكم الشرع ، وهو أن حظ العامل من عمله نيته ، فإن كانت صالحةً ؛ فعمله صالح ، فله أجره ، وإن كانت فاسدةً ؛ فعمله فاسد ، فعليه وزره .
ويحتمل أن يكون التقدير في قوله : «الأعمال بالنيات» الأعمال صالحة ، أو فاسدة ، أو مقبولة ، أو مردودة ، أو مثاب عليها ، أو غير مثاب عليها بالنيات ، فيكون خبراً عن حكم شرعي ، وهو أن صلاح الأعمال وفسادها بحسب صلاح النيات وفسادها ؛ كقوله ﷺ : «إنما الأعمال بالخواتيم» [رواه البخاري (6607)]؛ أي : إن صلاحها ، وفسادها ، وقبولها ، وعدمه بحسب الخاتمة .
وقوله بعد ذلك : «وإنما لكل امرئ ما نوى» إخبار أنه لا يحصل له من عمله إلا ما نواه به ، فإن نوى خيراً ؛ حصل له خير ، وإن نوى شرًّا ؛ حصل له شر ، وليس هذا تكريراً محضاً للجملة الأولى ؛ فإن الجملة الأولى دلت على أن صلاح العمل وفساده بحسب النية المقتضية لإيجاده ، والجملة الثانية دلت على أن ثواب العامل على عمله بحسب نيته الصالحة ، وأن عقابه عليه بحسب نيته الفاسدة ، وقد تكون نيته مباحةً ، فيكون العمل مباحاً ، فلا يحصل له به ثواب ولا عقاب ، فالعمل في نفسه صلاحه وفساده وإباحته بحسب النية الحاملة عليه ، المقتضية لوجوده ، وثواب العامل ، وعقابه ، وسلامته بحسب نيته التي صار بها العمل صالحاً ، أو فاسداً ، أو مباحاً .
واعلم أن النية في اللغة نوع من القصد والإرادة ، وإن كان قد فرق بين هذه الألفاظ بما ليس هذا موضع ذكره .
والنية في كلام العلماء تقع بمعنيين :
أحدهما : بمعنى تمييز العبادات بعضها عن بعض ؛ كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر _ مثلاً _ ، وتمييز صيام رمضان من صيام غيره ، أو تمييز العبادات من العادات ؛ كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظف _ ونحو ذلك _ .
وهذه النية هي التي توجد كثيراً في كلام الفقهاء في كتبهم .
والمعنى الثاني : بمعنى تمييز المقصود بالعمل ، وهل هو الله وحده لا شريك له ، أم غيره ، أم الله وغيره ؟
وهذه النية هي التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه ، وهي التي توجد كثيراً في كلام السلف المتقدمين .
وقد صنف أبو بكر بن أبي الدنيا مصنفاً سماه : كتاب «الإخلاص والنية» ، وإنما أراد هذه النية ، وهي النية التي يتكرر ذكرها في كلام النبي ﷺ تارةً بلفظ النية ، وتارةً بلفظ الإرادة ، وتارةً بلفظ مقارب لذلك .
وقد جاء ذكرها كثيراً في كتاب الله _ عز وجل _ ، بغير لفظ النية _ أيضاً _ من الألفاظ المقاربة لها .
وإنما فرق من فرق بين النية وبين الإرادة والقصد _ ونحوهما _ ؛ لظنهم اختصاص النية بالمعنى الأول الذي يذكره الفقهاء :
فمنهم من قال : النية تختص بفعل الناوي ، والإرادة لا تختص بذلك ؛ كما يريد الإنسان من الله أن يغفر له ، ولا ينوي ذلك .
وقد ذكرنا أن النية في كلام النبي ﷺ وسلف الأمة إنما يراد بها هذا المعنى الثاني غالباً ، فهي حينئذ بمعنى الإرادة .
ولذلك يعبر عنها بلفظ الإرادة في القرآن كثيراً ؛ كما في قوله _ تعالى _ : ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾ [سورة آل عمران:152] ، وقوله : ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾ [سورة الأنفال:67] ، وقوله : ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ...﴾ _ الآية _ [سورة الشورى:20] ، وقوله _ تعالى _ : ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ...﴾ _ الآية _ [سورة الإسراء:18] ، وقوله _ تعالى _ : ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا﴾ [سورة هود:15] وقوله : ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ _ الآية _ [سورة الأنعام:52] ، وقوله : ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [سورة الكهف:28] ، وقوله : ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ﴾ [سورة الروم:38] ، وقوله : ﴿وَمَا ءَاتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا ءَاتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ [سورة الروم:39] .
وقد يعبر عنها في القرآن بلفظ الابتغاء ؛ كما في قوله _ تعالى _ : ﴿إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى﴾ [سورة الليل:20] ، وقوله : ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ...﴾ _ الآية _ [سورة البقرة:265] ، وقوله : ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ [سورة البقرة:272] ، وقوله : ﴿لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ...﴾ _ الآية _ [سورة النساء:114] .