أنت هنا

قراءة كتاب الكلمات والاشياء

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الكلمات والاشياء

الكلمات والاشياء

يعتبر كتاب (الكلمات والأشياء) ليس أهم ما كتب ميشيل فوكو وعبّر عن فلسفته فحسب، ولكنه كذلك أفضل شاهد على قدرة العقل في إعادة اكتشاف أنظمته المعرفية، ومراجعتها لأول مرة في تاريخ الفلسفة الحديثة خارج الأطر الإيديولوجية التي اعتادت أن تقنعها وتستخدمها.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 8

مقدمة

ترجمة: بدر الدين عرودكي
مراجعة: جـورج زيـنـاتـي
لهذا الكتاب مكان ولادة في نص لِـ (بورخيس Borges). في الضحكة التي تهزّ لدى قراءته كلّ عادات الفكر ـ فكرنا: الفكر الذي له عمرنا وجغرافيتنا ـ، مزعزعة كلّ السطوح المنظمة والخطط التي تعقّل لنا التدفق الغزير للكائنات، وتجعل ممارستنا القديمة ـ لـ الذات: même، ولـ الآخر: Autre، ترتعش وتقلق لمدة طويلة. يستشهد هذا النص «بموسوعة صينية معينة» كُتب فيها أن الحيوانات تنقسم إلى: (أ) يملكها الأمبراطور، (ب) محنّطة، (ج) داجنة، (د) خنازير رضيعة، (هـ) جنّيات البحر، (و) خرافية، (ز) كلاب طليقة، (ح) ما يدخل في هذا التصنيف، (ط) التي تهيج كالمجانين، (ي) حيوانات لا تحصى، (ك) مرسومة بريشة دقيقة من وبر الجمل، (ل) إلى آخره، (م) التي كسرت الجرّة تواً، (ن) التي تبدو من بعيد كالذباب. ونحن تحت تأثير انبهارنا أمام مثل هذا التقسيم نصل بقفزة واحدة ـ بفضل المدافع عن هذا التقسيم البادي لنا كسحر غرائبي لفكر آخر ـ إلى الحد الأخير لفكرنا: الاستحالة العارية المطلقة لأن نفكر هكذا.
ما هو إذن ما يستحيل تفكيره؟ وأي استحالة نعني؟ من الممكن أن نعطي لكل واحد من هذه العناوين الفريدة معنىً دقيقاً ومَضموناً يمكن تعيينه، بعضها ينطوي على كائنات خيالية ـ الحيوانات الخُرافية وجنّيات البحر ـ إلّا أنَّ الموسوعة الصينية، إذ تُفرد لها مكاناً خاصاً بها على وجه التدقيق، فإنما تحدّد قدراتها على العدوى؛ إنها تميز بعناية الحيوانات الحقيقية (التي تهيج كالمجانين، أو التي كسرت الجرّة)، وتلك التي لا مكان لها إلّا في الخيال. فالخلط الخطير مستبعد، والشعارات والحكايات قد احتلّت مكانها، فليست هناك حيوانات برمائية صعبة التمثيل، ولا أجنحة ذات براثن، ولا قذارة حرشفية الجلد، ولا أي واحد من هذه الوجوه الشيطانية المتعدّدة الأشكال، ولا أي نسمة من لهب. والتشويه هنا لا يغيّر أي جسد حقيقي، ولا يعدّل في شيء كتاب الحيوان الخيالي، كما أنه لا يختبىء في أعماق أية سلطة غريبة. بل إنه لن يكون حاضراً في أي مكان في هذا التصنيف لو لم يكن يندسّ في كل المكان الخاوي، في كل البياض الحادث بين فرجتين، والذي يفصل الكائنات بعضها عن بعض. فليست الحيوانات «الخُرَافية» هي المستحيلة، إذ قد أشير إليها على أنها كذلك، وإنما المسافة الضيّقة التي وُضعت بموجبها إلى جانب الكلاب الطليقة أو الحيوانات التي تبدو من بعيد كالذباب. إن ما هو خارق لكلّ مخيلة، لكل فكر ممكن، هو ببساطة المجموعة الألف بائية (أ، ب، ج، د) التي تربط بكل الفئات الأخرى كل واحدة من هذه الفئات.
كذلك لسنا إزاء غرابة لقاءات مستهجنة. ونحن نعلم ما في مقاربة الحدود القصوى: أو حتى في المجاورة المفاجئة لأشياء لا علاقة بينها من تشويش وإرباك؛ فالتعداد الذي يصدمها بعضها ببعض يملك وحده قدرة سحرية: «لم أعد صائماً قط، يقول أوستين، في كل هذا اليوم، ستكون في مأمن من لعابي: الصل (أفعى صغيرة)، والقهيقران (من العظاء)، والأحياء اللاهوائية، والأميبات والنحليات والعنكبوتيات والنجميّات والمتألقات (حشرات غشائية الأجنحة)، ولفافات الورق (خنافس)، والوزغيات (فصيلة من العظاء)، والبواسير وغيرها من الأحياء الدقيقة والحشرات اللافقارية. لكن كل هذه الديدان والأفاعي، كل هذه الكائنات العفنة واللزجة تعج، شأن مقاطع الكلمات التي تسمّيها؛ في لعاب أوستين: هناك تجد جميعها مكانها المشترك، كما هو الأمر مع طاولة العمليات التي عليها مظلّة أو آلة خياطة؛ وإذا كانت غرابة لقائها تسطع، فإنما تسطع على خلفية من حرف العطف (الواو)، ومن حرفيْ الجر (في وعلى)، التي تضمِّن صلابتها ووضوحها إمكانيةُ المقاربة. لقد كان حقاً من غير المحتمل أن تأتي البواسير والعناكب والأميبا، ذات يوم، لتختلط تحت أسنان أوستين، إلّا أنه بعد كل شيء، في هذا الفم المضيف الشّره، كان هناك ما تسكن فيه وتجد قصرَ تعايشها.
إن الفظاعة التي يجعلها بورخيس تطوف عبر تعداده تقوم على العكس من ذلك، في أن المكان المشترك للقاءات هو نفسه قد أصابه الخراب. إنَّ ما هو مستحيل ليس تجاور الأشياء وإنما الموقع نفسه الذي يمكن لها أن تتجاور فيه. فالحيوانات: «(ط) التي تهيج كالمجانين، (ي) الحيوانات التي لا تحصى، (ك) والمرسومة بريشة دقيقة من وبر الجمل» ـ أين يمكن لها أن تلتقي أصلاً، إلا في الصوت غير المادي الذي يلفظ تعدادها، إلّا على الصفحة التي تدوّن هذا الصوت؟ وأين يسعها أن تتحاذى إنْ لم يكنْ في لامكان اللغة؟ بيد أن هذا اللامكان بنشره لها، لا يفتح أبداً سوى مكان لا يخطر ببال. فالفئة المركزية من الحيوانات و«الداخلة في هذا التصنيف» تشير بما يكفي بالإسناد الظاهر لمفارقات معروفة، أننا لن نتوصّل أبداً لتحديد علاقة محتوٍ بحاوٍ ثابتةٍ بين كل واحدة من هذه المجموعات، والمجموعة التي تجمعها كلها: إذا كانت كل الحيوانات الموزعة تدخل بلا استثناء في إحدى خانات التوزيع، فهل كل الحيوانات الأخرى ليست في هذه الخانة؟ وهذه بدورها، في أيّ مكان تقيم؟ إن العبث يدمّر حرف العطف «و» في التعداد حين يصيب بالاستحالة حرف الجر «إلى» حيث تتوزع الأشياء الوارد تعدادها. إن بورخيس لا يضيف أي شكل على أطلس المستحيل، كما أنه لا يعمل على تدفق برق اللقاء الشعري في أي مكان، وإنما يتلافى، فقط، أكثر الضرورات كتماناً ولكن أشدها إنجاحاً، ويلغي المكان، الأرض الخرساء، حيث يسع الكائنات أن تتحاذى. اختفاء مقنع أو بالأحرى مشار إليه بسخرية بالمجموعة الألفبائية لأبجديتنا التي يفترض بها أن تقوم بدور الخط الموجِّه (الوحيد المرئي) لتعدادات موسوعة صينية. إن ما أَنتزع بكلمة: هو «طاولة» العمليات الشهيرة، وبإعطائي روسيل Roussel جزءاً زهيداً مما هو متوجّب له دوماً، فإنني استخدم كلمة «طاولة» هذه بمعنيين متراكبَيْن: طاولة نيكلية، مطاطية، مغلَّفة بالبياض، متلألئة تحت الشمس الزجاجية التي تلتهم الظلال؛ ـ هناك حيث تلتقي للحظة، وربما للأبد، الشمسية آلة الخياطة، ولوحة تسمح للفكر بأن يقيم بين الكائنات تنظيماً، توزيعاً طبقياً، تجمعياً اسمياً يشار به إلى ما تتشابه به وما تختلف فيه، ـ هناك حيث تتقاطع، منذ عمق الأزمنة، اللغةُ مع المكان.

الصفحات